13 ـ باب بيان كثرة طرق الخير
قال الله تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215)، وقال تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) (البقرة: 197) ، وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، وقال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) (الجاثـية:15) ، والآيات في الباب كثيرة .
الشرح
قال مؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : ( باب بيان كثرة طرق الخير )، الخير له طرق كثيرة وهذا من فضل الله ـ عز وجل ـ على عباده من أجل أن تتنوع لهم الفضائل والأجور ، والثواب الكثير ، وأصول هذه الطرق ثلاثة : إما جهد بدني ، وإما بذل مالي ، وإما مركب من هذا وهذا ، هذه أصول طرق الخير . أما الجهد البدني فهو أعمال البدن ؛ مثل الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، وما أشبه ذلك ، وأما البذل المالي فمثل الزكوات ، والصدقات ، والنفقات ، وما أشبه ذلك ، وأما المركب فمثل الجهاد فسبيل الله بالسلاح ؛ فإنه يكون بالمال ويكون بالنفس ، ولكن أنواع هذه الأصول كثيرة جداً ، من أجل أن تتنوع للعباد الطاعات ، حتى لا يملوا . لو كان الخير طريقاً واحد لمل الناس من ذلك وسئموا ، ولما حصل الابتلاء ، ولكن إذا تنوع كان ذلك أرفق بالناس ، وأشد في الابتلاء .
قال الله تعالى في هذا الباب : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) (البقرة:148) ، وقال تعالى : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) (الأنبياء:90) ، وهذا يدل على أن الخيرات ليست خيراً واحداً ، بل طرق كثيرة .
ثم ذكر المؤلف آيات تشير إلى الخير له طرق ، قال تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) (البقرة: 197)، ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 215) ، ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، والآيات في هذا كثيرة ، تدل على أن الخيرات ليست صنفاً واحداً ، أو فرداً واحداً ، أو جنساً واحداً .
ويدل لما قلنا أن من الناس من تجده يألف الصلاة ، فتجده كثير الصلوات ، ومنهم من يألف قراءة القرآن ، فتجده كثيراً يقرأ القرآن ، ومنهم من يألف الذكر ، والتسبيح ، والتحميد ، وما أشبه ذلك ، فتجده يفعل ذلك كثيراً ، ومنهم الكريم الطليق اليد الذي يحب بذل المال فتجده دائماً يتصدق ، ودائماً ينفق على أهله ويوسع عليهم في غير إسراف .
ومنهم من يرغب العلم وطلب العلم ، الذي هو في وقتنا هذا قد يكون أفضل أعمال البدن ؛ لأن الناس في الوقت الحاضر ، في عصرنا ، هذا محتاجون إلى العلم الشرعي ، لغلبة الجهل، وكثرة المتعالمين الذين يدعون أنهم علماء ، وليس عندهم من العلم إلا بضاعة مزجاة ، فنحن في حاجة إلى طلبة علم ، يكون عندهم علم راسخ ثابت مبني على الكتاب والسنة ، من أجل أن يردوا هذه الفوضى التي أصبحت منتشرة في القرى والبلدان والمدن ؛ كل إنسان عنده حديث أو حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى للفتيا ، ويتهاون بها ، وكأنه شيخ الإسلام ابن تيمية ، أو الإمام أحمد أو الإمام الشافعي ، أو غيرهم من الأئمة ، وهذا بنذر بخطر عظيم ؛ إن لم يتدارك الله الأمة بعلماء راسخين ، عندهم علم قوي وحجة قوية .
ولهذا نرى أن طلب العلم اليوم أفضل الأعمال المتعدية للخلق ، أفضل من الصدقة ، وأفضل من الجهاد ، بل هو جهاد في الحقيقة ، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعله عديلاً للجهاد في سبيل الله ، وليس الجهاد الذي يشوبه ما يشوبه من الشبهات ، ويشك الناس في صدق نية المجاهدين ، لا ، الجهاد الحقيقي الذي تعلم علم اليقين أن المجاهدين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ، فتجدهم مثلاً يطبقون هذا المبدأ في أنفسهم قبل أن يجاهدوا غيرهم ، فالجهاد الحقيقي في سبيل الله : الذي يقاتل فيه المقاتلون لتكون كلمة الله هي العيا يعادله طلب العلم الشرعي ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ، يعني ما كانوا ليذهبوا إلى الجهاد جميعاً ، ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ) يعني وقعدت طائفة ، وإنما قعدوا ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122) ، فجعل الله طلب العلم معادلاً للجهاد في سبيل الله ، الجهاد الحق الذي يعلم بقرائن الأحوال وحال المجاهدين أنهم يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا .
فالمهم أن طرق الخير كثيرة ، وأفضلها فيما أرى ـ بعد الفرائض التي فرضها الله ـ هو طلب العلم الشرعي ، لأننا اليوم في ضرورة إليه ، لقد سمعنا وجاءنا استفتاء عن شخص يقول : من صلى في مساجد البلد الفلاني فإنها لا تصح صلاته ، لأن الذين تبرعوا لهذه المساجد فيهم كذا ، وكذا ومن صلى على حسب الأذان ، فإنه لا تصح صلاته . لماذا ؟! لأنه مبني على توقيت وليس على رؤية الشمس ، و الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس ، وكان ظل الرجل كطوله ، ما لم يحضر العصر )(103) ، أما الآن ؛ الأوقات مكتوبة في أوراق ، والناس يمشون عليها ، هؤلاء كلهم لا تصح صلاتهم ، يعني كل المسلمين ـ على زعمه ـ لا تصح صلاتهم ، وهذه بلبلة .
والمشكلة أن مثل هذا ، يقال : إنه رجل عنده شيء من العلم ، لكنه علم الأوراق الذي يعطى الإنسان فيه بطاقة تشهد بأنه متخرج من كذا وكذا ، ثم يقول : أنا من ، أنا ,, !! فالحاصل أنه لابد للأمة الإسلامية من علماء راسخين في العلم ، أما أن تبقى الأمور هكذا فوضى ، فإنهم على خطر عظيم ، ولا يستقيم للناس دين ، ولا تطمئن قلوبهم ، ويصير كل واحدٍ تحت شجرة يفتي ، وكل واحد تحت سقف يفتي ، وكل واحد على قمة جبل يفتي ، وهذا ليس صحيح ، لابد من علماء عندهم علم راسخ ثابت ، مبني على الكتاب والسنة ، وعلى العقل والحكمة . والله الموفق .
* * *
وأما الأحاديث فكثيرة جداً وهي غير منحصرة فنذكر ، ومنها طرفاً منها :
117 ـ الأول : عن أبى ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ) قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : ( أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً ) ، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق ). قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة على نفسك ) متفق عليه(104) .
( الصانع ) بالصاد المهملة ، هذا هو المشهور ، وروي : (ضائعاً ) بالمعجمة أي ذا ضياع من فقر أو عيال ، ونحو ذلك ، و( الأخرق ) : الذي لا يتقن ما يحاول فعله .
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب كثرة الخير ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه سال النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ) والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال من أجل أن يقوموا بها ، وليسوا كمن بعدهم ، فإن من بعدهم ربما يسألون عن أفضل الأعمال ، ولكن لا يعملون . أما الصحابة فإنهم يعملون ، فهذا ابن مسعود ـ رضي اله عنه ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت ثم أي ؟ قال ( بر الوالدين ) . قلت ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله )(105) .
وهذا أيضاً أبو ذر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال ؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الأعمال إيمان بالله ، وجهاد في سبيله ، ثم سأله عن الرقاب : أي الرقاب أفضل ؟ والمراد بالرقاب : المماليك ، يعني : ما هو الأفضل في إعتاق الرقاب ؟ فقال : ( أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً ) وأنفسها عند أهلها يعني : أحبها عن أهلها ، وأكثرها ثمناً : أي أغلاها ثمناً ، فيجتمع في هذه الرقبة النفاسة ، وكثرة الثمن ، ومثل هذا لا يبذله إلا الإنسان عنده قوة وإيمان .
ومثال ذلك : إذا كان عند رجل عبيد ومنهم واحد يحبه ؛ لأنه قائم بأعماله ، ولأنه خفيف النفس ، ونافع لسيده ، وهو كذلك أيضاً أغلى العبيد عنده ثمناً ، فإذا سألا أيما أفضل ؟ أعتق هذا ، أو ما بعده ، أو ما دونه ؟ قلنا أن تعتق هذا ، لأن هذا أنفس الرقاب عندك ، وأغلاها ثمناً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرقاب : أغلاها ثمناً ، أنفسها عند أهلها . وهذا كقوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران:92).
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به ، اتباعاً لهذا الآية .
وجاء أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ حين نزلت هذه الآية : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله أنزل قوله : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وأن أحب مالي إلى بيرحاء ، وبيرحاء بستان نظيف قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتني إليه ، ويشرب من ماء فيه طيب عذب ، وهذا يكون غالباًً عند صاحبه ، فقال أبو طلحة : وإن أحب مالي إلي بيرحاء ، وإني أجعلها صدقة لله ورسوله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بخ . بخ ) . يعني يتعجب ويقول : ( مال رابح ، مال رابح ) ثم قال : ( أرى أن تجعلها في الأقربين )(106) ، فقسمها أبو طلحة في قرابته ، والشاهد أن الصحابة يتبادرون الخيرات .
ثم سأله أبو ذر : إن لم يجد ، يعني رقبة بهذا المعني ، أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً ؟ قال : ( تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) ، يعني : تصنع لإنسان معروفاً ، أو تعين أخرق ، ما يعرف ، فتساعده وتعينه ، فهذا أيضاً صدقة ومن الأعمال الصالحة .
قال : فإن لم أفعل ؟ قال : ( تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة منك على نفسك ) وهذا أدنى ما يكون ؛ أن يكف الإنسان شره عن غيره ، فيسلم الناس منه ، والله الموفق .
* * *
118 ـ الثاني : عن أبي ذر أيضاً ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقه ، وكل تهليله صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) رواه مسلم (107). ( السلامى ) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم : المفصل .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله في باب كثرة طرق الخيرات ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ) السلامى هي العظام ، أو مفاصل العظام ، يعني أنه يصبح كل يوم على كل واحد من الناس صدقة في كل عضو من أعضائه ، في كل مفصل من مفاصله ، قالوا : والبدن فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً ، ما بين صغير وكبير ، فيصبح على كل إنسان كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة .
ولكن هذا الصدقات ليست صدقات مالية ، بل هي عامة ، كل أبواب الخير صدقة ، كل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنك إذا أعنت الرجل في دابته وحملته عليها أو رفعت له عليها متعة فهو صدقة )(108) كل شيء صدقة ، قراءة القرآن صدقة ، طلب العلم صدقة ، وحينئذ تكثر الصدقات ، ويمكن أن يأتي الإنسان بما عليه من الصدقات ، وهي ثلاثمائة وستون صدقة .
ثم قال : ( ويجزى من ذلك ) ، يعني : عن ذلك ( ركعتان يركعهما من الضحى ) يعني أنك صليت من الضحى ركعتين ؛ أجزأت عن كل الصدقات التي عليك ، وهذا من تيسير الله ـ عز وجل ـ على العباد .
وفي الحديث دليل على أن الصدقة تطلق على ما ليس بمال .
وفيه أيضاً دليل على أن ركعتي الضحى سنة ، سنة كل يوم ، لأنه إذا كان كل يوم عليك صدقة على كل عضو من أعضائك ، وكانت الركعتان تجزي ، فهذا يقضي أن صلاة الضحى سنة كل يوم ، من أجل أن تقضي الصدقات التي عليك .
قال أهل العلم : وسنة الضحى يبتدئ وقتها مع ارتفاع الشمس قدر رمح ، يعني حوالي ربع إلى ثلث ساعة بعد الطلوع ، إلى قبيل الزوال ، أي إلى قبل الزوال بعشر دقائق ، كل هذا وقت لصلاة الضحى ، في أي وقت فيه تصلى ركعتي الضحى ، ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال ، فإنه يجزي لكن الأفضل أن تكون في آخر الوقت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )(109) ، يعني حين تقوم الفصال من الرمضاء لشدة حرارتها ؛ ولهذا قال العلماء : إن تأخير ركعتي الضحى إلى آخر الوقت أفضل من تقديمها ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن تؤخر صلاة العشاء إلى آخر الوقت ، إلا مع المشقة .
فالحاصل أن الإنسان قد فتح الله له أبواب طرق الخير كثيرة ، وكل شيء يفعله الإنسان من هذه الطرق ، فإن الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . والله الموفق .
* * *
119 ـ الثالث : عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عرضت علي أعمال أمتي ، حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) رواه مسلم (110).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ) عرضت علي : يعني بلغت عنها ، وبينت لي ، والذي بينها له هو الله ـ عز وجل ـ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يحلل ويحرم ويوجب ، فعرض الله ـ عز وجل ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المحاسن والمساوئ من أعمال الأمة ، فوجد من محاسنها : الأذى يماط عن الطريق ، ويماط : يعني يزال ، والأذى ما يؤذي المارة ؛ من شوك ، وأعواد ، وأحجار ، وزجاج ، وأرواث ، وغير ذلك . كل ما يؤذي فإماطته من محاسن الأعمال .
وقد بين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، فهو من محاسن الأعمال ، وفيه ثواب الصدقة ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم : أن ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان )(111) ، فإذا وجدت في الطريق أذى فأماطته ؛ فإن ذلك من محاسن أعمالك ، وهو صدقة لك ، وهو من خصال الإيمان وشعب الإيمان .
وإذا كان هذا من المحاسن ومن الصدقات ، فإن وضع الأذى في طريق المسلمين من مساوئ الأعمال ، فهؤلاء الناس الذين يلقون القشور في الأسواق ، في ممرات الناس ؛ لاشك أنهم إذا آذوا المسلمين فإنهم مأزورون ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) قال العلماء : لو زلق به حيوان أو إنسان فانكسر ، فعلى من وضعه ضمانه ، يضمنه بالدية أو بما دون الدية إذ كان لا يحتمل الدية ، المهم أن هذا من أذية المسلمين .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الناس من إراقة المياه في الأسواق فتؤذي الناس ، وربما السيارات من عندها، فتفسد على الإنسان ثيابه ، وربما يكون فيها فساد لا شك للإسفلت ؛ لأن الإسفلت كلما أتى عليه الماء وتكرر ؛ فإنه يذوب ويفسد .
فالمهم أننا ـ مع الأسف الشديد ونحن أمة مسلمة ـ لا تبالي بهذه الأمور ، وكأنها لا شيء ، يلقى الإنسان الأذى في الأسواق ، ولا يهتم بذلك ، يكسر الزجاجات في الأسواق ، ولا يهتم بذلك ، الأعواد يلقيها ؛ لا يهتم بذلك ، حجر يضعه لا يهتم بذلك ، إذن يستحب لنا كلما رأينا ما يؤذي أن نزيله عن الطريق ؛ لأن ذلك صدقة ، ومن محاسن الأعمال .
ثم قال : ( ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) النخاعة يعني النخامة ، وسميت بذلك لأنها تخرج من النخاع ، النخامة تكون في المسجد لا تدفن ؛ لأن المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفروش بالحصباء ، بالحصى الصغار ، فالنخامة تدفن في التراب ، أما عندنا الآن فليس هناك تراب ، ولكن إذا وجدت فإنها تحك بالمنديل حتى تذهب ، واعلم أن النخامة في المسجد حرام ، فمن تنخع في المسجد فقد أثم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( البصاق في المسجد خطيئة ) فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنها خطيئة وكفارتها دفنها ، يعني إذا فعلها الإنسان وأراد أن يتوب فليدفنها ، لكن في عهدنا : فليحكها بمنديل أو نحوه حتى تزول .
وإذا كانت هذه النخاعة ، فما بالك بما هو أعظم منها ، مثل ما كان فيما مضى ، حيث يدخل الإنسان المسجد بحذائه ولم يقلبها ويفتش فيها ، ويكون فيها الروث الذي ينزل إلى المسجد ، فيتلوث به فأنت اعتبر بالنخامة ، ما هو مثلها في أذية المسجد ، أو أعظم منها ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس تكون معه المناديل الخفيفة ، ثم يتنخع فيها ويرمي بها في أرض المسجد ، هذا أذى ، ولا شك أن النفوس تتقزز إذا رأت مثل ذلك ، فكيف إذا كان ذلك في بيت من بيوت الله ، فإذا تنخعت في منديل ، فضعه في جيبك ، حتى تخرج فترمي به فيما أعد لذلك ، على ألا تؤذي به أحداً . والله الموفق .
* * *
120 ـ الرابع : عنه : أن ناساً قالوا يا رسول الله : ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، قال : ( أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ؟ إن بكل تسبيحه صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) رواه مسلم(112) .
( الدثور ) بالثاء المثلثة : الأموال ، وأحدها دثر .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن ناساً قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، يعني استأثروا بالأجور وأخذوها عنا ، وأهل الدثور : يعني أهل الأموال ؛ يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ؛ يعني : فنحن وهم سواء في الصلاة وفي الصيام ، ولكنهم يفضلوننا بالتصدق بفضول أموالهم ، أي بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال ؛ يعني : ولا نتصدق .
وهذا كما جاء في الحديث الآخر عن فقراء المهاجرين ، قالوا : ويعتقون ولا نعتق . فانظر إلى الهمم العالية من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ؛ يغبطون إخوانهم بما أنعم الله عليهم من الأموال التي يتصدقون بها ويعتقون منها ، وليسوا يقولون : عندهم فضول أموال ؛ يركبون بها المراكب الفخمة ، ويسكنون القصور المشيدة ، ويلبسون الثياب الجميلة ؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خير وأبقى ، وهو الآخرة ، قال الله تعالى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:16،17) ، وقال الله تعالى لنبيه صلى اله عليه وسلم : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (الضحى:4) .
فهم اشتكوا إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ شكوى غبطة ، لا شكوى حسد ، ولا اعتراض على الله ـ عز وجل ـ ولكن يطلبون فضلاً يتميزون به عمن أغناهم الله ؛ فتصدقوا بفضول أموالهم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ؟!) يعني إذا فاتتكم الصدقة بالمال ، فهناك الصدقة بالأعمال الصالحة : ( إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمرٌ بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ) ، وقد سبق الكلام على الأربع الأولى فيما سبق .
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( أمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ) فإن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من أفضل الصدقات ؛ لأن هذا هو الذي فضل الله به هذه الأمة على غيرها ، فقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (آل عمران:110) ، ولكن لابد للأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من شروط :
الشرط الأول : أن يكون الأمر والناهي عالماً بحكم الشرع ، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم ؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يأمر بما يعتقد الناس أنه شرع الله ـ وليس له أن يتكلم في شرع الله بما لا يعلم ؛ لأن الله حرم ذلك بنص القرآن ، فقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (الأعراف:33) .
فمن منكرات الأمور : أن يتكلم الإنسان عن شيء يقول إنه معروف ، وهولا يدري أنه معروف ، أو يقول : إنه منكر ، وهو لا يدري أنه منكر .
الشرط الثاني : أن يكون عالماً بأن المخاطب قد ترك المأمور أو فعل المحظور ، فإن كان لا يدري ' فإنه لا يجوز له أن يفعل ؛ لأنه حينئذ يكون قد قفا ما ليس له به علم ، وقد قال الله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (الإسراء:36) .
يوجد بعض الناس الذين عندهم غيرة ، وحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ يتسرع فينكر من غير أن يعلم الحال التي عليها المخاطب . فمثلاً يجد إنساناً معه امرأة في السوق ، فيتكلم في ذلك مع الرجل : لماذا تمشي مع المرأة ؟ وهو لا يدري أنه محرم لها . هذا خطأ عظيم ، إذا كنت في شك فسأله قبل أن تتكلم . أما إذا لم تكن هناك قرائن توجب الشك في هذا الرجل فلا تتكلم . ما أكثر الناس الذين يصطحبون نساءهم في الأسواق. وانظر إلى حال النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ كيف يعامل الناس في هذه المسألة .
دخل رجل يوم الجمعة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجلس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصليت ؟) قال : لا . قال : ( قم فصل ركعتين وتجوز فيهما )(113) . ما قال له : لماذا تقعد ؟ لأن الإنسان إذا دخل المسجد ينهى أن يجلس قبل أن يصلي ركعتين ، ففي أي وقت تدخل المسجد ، في الصباح ، في المساء ، بعد العصر ، بعد المغرب ، بعد الفجر ؛ لا تجلس حتى تصلي ركعتين ، فهذا الرجل جاء وجلس ، لكن هناك احتمال أنه صلى قبل أن يجلس ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يره ، ولهذا قال له : ( أصليت ؟) قال : لا . قال : (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما ) يعني خفف . فهنا لم يأمره أن يقوم فيصلي حتى سأله ، وهذه هي الحكمة .
الشرط الثالث : من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ألا يترتب على النهي عن المنكر ما هو أنكر منه ، فإن ترتب على ذلك ما هو أنكر منه فإنه لا يجوز ، من باب درء أعلى المفسدتين بأدناهما
فلو فرض أن شخصاً وجدناه على منكر كأن يشرب الدخان مثلاً ، ولو نهيناه عن شرب الدخان ذهب يشرب الخمر ، فإننا لا ننهاه ؛ إذ كنا نعلم أن هذا الرجل سيقدم على ما هو أعظم ؛ فإننا لا ننهاه عن شرب الدخان عندئذ . لماذا ؟ لأن شرب الدخان أهون من شرب الخمر ، ودليل هذه المسألة قول الله تعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (الأنعام:108) ، فسب آلهة المشركين مصلحة مشروعة ، لكن إذا ترتب عليها سب الله ـ عز وجل ـ وهو أهل للثناء والمجد ، فإنه ينهى عنه . لهذا قال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام : ( لعن الله من لعن والديه )(114) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من الكبائر شتم الرجل والديه . قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : ( نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه )(115).
فالحاصل : أنه لابد ألا يتضمن الإنكار ما هو أنكر من المنكر ؛ درءاً لأعلى المفسدتين بأدناهما .
ثم إنه يجب على الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر أن ينوي بهذا إصلاح الخلق . لا الانتصار عليهم ، لأن من الناس من يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر لينفذ سلطته وينتصر لنفسه ، وهذا نقص كبير . قد يحصل فيه خير من جهة درء المنكر وفعل المعرف ، ولكنه نقص كبير فأنت إذا أمرت بالمعروف ، أو نهيت عن المنكر ، فانو بقلبك أنك تريد إصلاح الخلق ، لا أنك تتسلط عليهم ، وتنتصر عليهم ، حتى تؤجر ، ويجعل الله في أمرك ونهيك بركة . والله المستعان .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وفي بضع أحدكم صدقة ) يعني أن الرجل إذا أتى امرأته ، فإن ذلك صدقة ، قالوا يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( أرأيتم لو وضعها في الحرام ، أكان عليه وزر ؟ ) يعني لو زنى ووضع الشهوة في الحرام ، هل يكون عليه وزر ؟ قالوا : نعم . قال : ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) والحمد لله . ومعنى ذلك : أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام ، كان له بهذا الاستغناء أجر .
ومن ذلك أيضاً : إذا أكل الإنسان طعاماً ، فإنه ينال شهوته بالأكل والشرب ، ومع ذلك ـ لكونه يستغني به عن الحرام ـ فإنه يكتب له به أجر .
ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لسعد بن أبي وقاص : ( واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها ، حتى ما تجعله في فم امرأتك )(116)، مع أن ما يجعله الإنسان في فم امرأته أمر لابد منه ، إذ إن المرأة تقول : أنفق علي أو طلقني ، وتخصمه في ذلك ، تغلبه إذا لم ينفق ، مع قدرته على الإنفاق ، فلها الحق في أن تفسخ النكاح . ومع ذلك إذا أنفق عليها ينبغي بذلك وجه الله ، فإن الله تعالى يؤجره على ذلك .
وفي حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ تنبيه على ما يسميه الفقهاء قياس العكس : وهو إثبات نقص حكم الأصل في ضد الأصل لمفارقة العلة فهنا العلة في كون الإنسان يؤخر إذا أتى أهله ، هو أنه وضع شهوته في حلال ، نقيض هذه العلة : إذا وضع شهوته في حرام ، فإنه يعاقب على ذلك ، وهذا هو ما يسمى عند العلماء بقياس العكس ، لأن القياس أنواع قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقياس عكس . والله الموفق .
123 ـ السابع : عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح ) متفق عليه(117).
( النزل ): القوت والرزق وما يهيأ للضيف .
124 ـ الثامن : عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ) متفق عليه(118).
قال الجوهري : الفرسن من البعير : كالحافر من الدابة ، قال : ربما استعير في الشاة .
الشرح
هذا الحديثان اللذان نقلهما المؤلف ـ رحمه الله ـ عن أبي هريرة رضي اله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الأول : فهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح ) ، غدا : يعني ذهب غدوة ، أي ذهب أول النهار ، وذلك مثل أن يذهب إلى المسجد لصلاة الفجر . ( أو راح ) : الرواح يطلق على بعد الزوال ، مثل الذهاب إلى صلاة الظهر أو العصر ، وقد يطلق الرواح على مجرد الذهاب ، كما في قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث أبي هريرة : ( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى .. ) إلى آخر الحديث(119) فإن معنى راح في الساعة الأولى : أي ذهب إلى المسجد في الساعة الأولى ، لكن إذا ذكرت الغدوة مع الرواح ، صارت الغدوة أو النهار ، والرواح آخر النهار .
وظاهر الحديث أن من غدا إلى المسجد أو راح ، سواء غداء للصلاة ، أو لطلب علم ، أو لغير ذلك من مقاصد الخير ، أن الله يكتب له الجنة نزلاً ، والنزل : ما يقدم للضيف من طعام ونحوه على وجه الإكرام ، أي أن الله تعالى يعد لهذا الرجل الذي ذهب إلى المسجد صباحاً أو مساءً ، يعد له في الجنة نزلاً إكراماً له .
ففي هذا الحديث إثبات هذا الجزاء العظيم لمن ذهب إلى المسجد أو النهار أو آخره . وفيه بيان فضل الله ـ عز وجل ـ على العبد ، حيث يعطيه على مثل هذه الأعمال اليسيرة هذا الثواب الجزيل .
وأما حديثه الثاني : فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ) ، يعني أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا الحديث حث على الهدية للجار ولو شيئاً قليلاً ، قال : ( ولو فرسن شاة ) الفرسن ما يكون في ظلف الشاة ، وهو شيء بسيط زهيد كأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو قل .
وقد جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : ( إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) . حتى المرق إذا أعطيته جيرانك هدية ، فإنك تثاب على ذلك . كذلك أيضاً : ( لا تحقرن شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) فإن هذا من المعروف . إذا لم تلق أخاك بوجه عبوس مكفهر ، بل بوجه منطلق منشرح ، فإن هذا من الخير ومن المعروف ، لأن أخاك إذا واجهته بهذه المواجهة يدخل عليه السرور ويفرح ، وكل شيء يدخل السرور على أخيك المسلم ؛ فإنه خير وأجر ، كل شيء تغيظ به الكافر فإنه خير وأجر . قال الله تعالى : ( وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِح) (التوبة: 120) .
* * *
125 ـ التاسع عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة : فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) متفق عليه(120).
( البضع ) من ثلاثة إلى تسعة بكسر الباء وقد تفتح . ( والشعبة ) : القطعة .
الشرح
هذا الحديث بين فيه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الإيمان ليس خصلة واحدة ، أو شعبة واحدة ، ولكنه شعب كثيرة ؛ بضع وسبعون ، يعني من ثلاث وسبعين إلى تسع وسبعين ، أو بضع وستون شعبة ، ولكن أفضها كلمة واحدة : وهي لا إله إلا الله ، هذه الكلمة لو وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بها ، لأنها كلمة الإخلاص ، وكلمة التوحيد، الكلمة التي سأل الله أن يختم لي ولكم بها ، من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة . هذه الكلمة هي أفضل شعب الإيمان ، ( وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) ، يعني إزالة الأذى عن الطريق ، وهو كل ما يؤذي المارين ، من حجر ، أو شوك ، أو زجاج ، أو خرق ، أو غير ذلك ، كل ما يؤذي المارين إذا أزلته فإن ذلك من الإيمان .
(والحياء شعبة من الإيمان ) وفي حديث آخر : ( الحياء من الإيمان )(121). والحياء : حالة نفسية تعتري الإنسان عند فعل ما يخجل منه ، وهي صفة حميدة كانت خلق النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان من خلقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ الحياء ، حتى أنه كان أكثر حياء من العذراء في خدرها ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا أنه لا يستحي من الحق .
فالحياء صفة محمودة ، لكن الحق لا يستحي منه ، فإن الله يقول : ( وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) (الأحزاب:53) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) (البقرة:26) الحق لا يستحي منه ، ولكن ما سوى الحق فإن من الأخلاق الحميدة أن تكون حيياً ، ضد ذلك من لا يستحي ، فلا يبالي بما فعل ، ولا يبالي بما قال . ولهذا جاء في الحديث : ( إن مما أردك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )(122). والله الموفق .
* * *
126 ـ العاشر : عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئراً ، فنزل فيها فشرب ، ثم خرج فإذا كلب يلهث ، يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ماء ، ثم أمسكه بفيه ، حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر له ، فغفر له قالوا : يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً فقال في كل كبدٍ رطبةٍ أجر ) متفق عليه(123) .
وفي رواية للبخاري : ( فشكر الله له ، فغفر له ، فأدخله الجنة ) .
وفي روايى لهما : ( بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش ، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ، فنزعت موقها فاسقت له به ، فسقته فغفر لها به ) .
( الموق ) : الخف . و( يطيف ) يدور حول (ركية ) وهي البئر .
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمة الله تعالى ـ في باب كثرة طرق الخيرات هذه القصة الغريبة التي رواها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه بينا رجل يمشي في الطريق مسافراً ، أصابه العطش ، فنزل بئراً فشرب منها ، وانتهى عطشه ، فلما خرج ، وإذا بكلب يأكل الثرى من العطش ، يعني : يأكل الطين المبتل الرطب ، يأكله من العطش ، من أجل أن يمص ما فيه من الماء ، من شدة عطشه ، فقال الرجل : والله لقد أصاب الكلب من العطش ما أصابني ، أو بلغ بهذا الكلب من العطش ما يلغي بي ، ثم نزل البئر وملأ خفه ماء . الخف : ما يلبس على الرجل من جلود ونحوها ، فملأه ماء فأمسكه بفيه ، وجعل يصعد بيديه ، حتى صعد من البئر ، فسقى الكلب ، فلما سقى الكلب شكر الله له ذلك العمل ، وغفر له ، وأدخله الجنة بسببه .
وهذا مصداق قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك )(124)، عمل يسير شكر الله به عامل هذا العمل ، وغفر له الذنوب ، وأدخله الجنة .
ولما حدث صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الحديث ، وكانوا ـ رضي الله عنهم -أشد الناس حرصاً على العلم ، لا من أجل أن يعلموا فقط ، لكن من أجل أن يعلموا فيعملوا . سألوا النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قالوا : يا رسول الله ، إن لنا في البهائم أجراً ؟ قال : ( في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر )(125)؛ لأن هذا كلب من البهائم ، فكيف يكون لهذا الرجل الذي سقاه هذا الأجر العظيم ؟ هل لنا في البهائم من أجر ؟ قال : ( في كل ذات كبد رطبة أجر ) الكبد الرطبة تحتاج إلى الماء ؛ لأنه لولا الماء ليبست وهلك الحيوان .
إذن نأخذ من هذه قاعدة ، وهي أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قص علينا قصة من بني إسرائيل فذلك من أجل أن نعتبر بها ، وأن نأخذ منها عبرة ، وهذا كما قال الله ـ عز وجل ـ : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) (يوسف:111) .
وفي رواية أخرى ، ولعلها قصة أخرى ، أن امرأة بغياً من بغايا بني إسرائيل ، يعني أنها تمارس الزنى ـ والعياذ بالله ـ رأت كلباً يطوف بركية ، يعني يدور عليها عطشان ، لكن لا يمكن أن يصل إلى الماء ؛ لأنها ركية بئر ، فنزعت موقها ـ يعني الخف الذي تلبسه ـ استقت له به من هذا البئر ، فغفر الله لها .
فدل هذا على أن البهائم فيها أجر . كل بهيمة أحسنت لها بسقي ، أو إطعام ، أو وقاية من حر ، أو وقاية من برد ، سواء كانت لك أو لغيرك من بني آدم ، أو كانت من السوائب ، فإن لك في ذلك أجراً عند الله ـ عز وجل ـ هذا وهن بهائم ؛ فكيف بالآدميين ؟ إذا أحسنت إلى الآدميين كان أشد وأكثر أجراً . ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ( من سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم )(126)، يعني لو كان ولدك الصغير وقف عند البرادة يقول لك : أريد ماء ، وأسقيته وهو ظمآن ، فقد سقيت مسلماً على ظمأ ، فإن الله يسقيك من الرحيق المختوم . أجر كثير ، ولله الحمد ، غنائم ولكن أين القابل لهذه الغنائم ؟ أين الذي يخلص النية ، ويحتسب الأجر على الله ـ عز وجل ـ ؟ فأوصيك يا أخي ونفسي لأن تحرص دائماً على اغتنام الأعمال بالنية الصالحة حتى تكون لك عند الله ذخراً يوم القيامة ، فكم من عمل صغيراً أصبح بالنية كبيراً ! وكم من عمل كبير أصبح بالغفلة صغيراً !
* * *
127 ـ الحادي عشر : عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لقد أريت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) . رواه مسلم (127).
وفي رواية : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم ، فأدخل الجنة )(128) .
وفي رواية لهما : ( بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخـره فشكر الله له فغفر له)(129).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لقد أريت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) . وفي الرواية الأخرى : أنه دخل الجنة ، وغفر الله له بسبب غصن أزاله عن طريق المسلمين ، وسواء كان هذا الغصن من فوق ، يؤذيهم من عند رؤوسهم ، أو من أسفل يؤذيهم من جهة أرجلهم . المهم أنه غصن شوك يؤذي المسلمين فأزاله عن الطريق ، أبعده ونحاه ، فشكر الله له ذلك ، وأدخله الجنة ، مع أن هذا الغصن إذا آذى المسلمين فإنما يؤذيهم في أبدانهم ، ومع ذلك غفر الله لهذا الرجل ، وأدخله الجنة. ففيه دليل على فضيلة إزالة الأذى عن الطريق ، وأنه سبب لدخول الجنة .
وفيه أيضاً دليل على أن الجنة موجودة الآن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الرجل يتقلب فيها ، وهذا أمر دل عليه الكتاب والسنة ، وأجمع عليه أهل السنة والجماعة ؛ أن الجنة موجودة الآن ، ولهذا قال الله تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) ، أعدت : يعني هيئت . وهذا دليل على أنها موجودة الآن ، كما أن النار أيضاً موجودة الآن ، ولا تفنيان أبداً . خلقهما الله ـ عز وجل ـ للبقاء ، لا فناء لهما ، ومن دخلهما لا يفنى أيضاً ، فمن كان من أهل الجنة بقى فيها خالداً مخلداً فيها أبد الآبدين . ومن كان من أهل النار من الكفار دخلها خالداً مخلداً فيها أبداً الآبدين .
وهذا الحديث دليل على أن من أزال عن المسلمين الأذى فله هذا الثواب العظيم في أمر حسيً ، فكيف بالأمر المعنوي ؟ هناك بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ أهل شر وبلاء ، وأفكار خبيثة ، وأخلاق سيئة ، يصدون الناس عن دين الله ، فإزالة هؤلاء عن طريق المسلمين أفضل بكثير وأعظم أجراً عند الله . فإذا أزيل أذى هؤلاء ، إذا كانوا أصحاب أفكار خبيثة سيئة إلحادية ، يرد عليها ، وتبطل أفكارهم .
فإن لم يجد ذلك شيئاً قطعت أعناقهم ، لأن الله يقول في كتابه العزيز : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33) ، و( أو ) هنا قال بعض العلماء : إنها للتنويع ، يعني أنهم يقتلون ويصلبون وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وينفوا من الأرض حسب جريمتهم .
وقال بعض أهل العلم : بل إن (أو) هنا للتخيير ، أي أن ولي الأمر مخير : أن شاء قتلهم وصلبهم ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإن شاء نفاهم من الأرض ، حسب ما يرى فيه المصلحة ، وهذا القول قول جيد جداً ؛ اعني أن تكون ( أو) هنا للتخيير لأنه ربما يكون هذا الإنسان جرمه ظاهر سهل ، ولكنه على المدى البعيد يكون صعباً ، ويكون مضلاً للأمة . فهنا مثلاً هل نقول لولي الأمر أن جرم هذا الإنسان سهل . أنفه من الأرض ، أطرده يكفي ، أو اقطع يده اليمنى ورجله اليسرى يكفي ، قد يقول لا يكفي ؛ هذا أمر يخشى منه في المستقبل ، هذا لا يكفي المسلمين شره إلا أن أقتله ؛ نقول : نعم لك ذلك . فكون ( أو) هنا للتخيير أقرب للصواب من كونها تنزل على حسب الجريمة .
والواجب على ولاة الأمور أن يزيلوا الأذى عن طريق المسلمين ، أي أن يزيلوا كل داعية إلى شر ، أو إلى إلحاد ، أو إلى مجون ، أو إلى فسوق بحيث يمنع من نشر ما يريد من أي شيء كان من الشر والفساد ، وهذا هو الواجب .
ولكن لا شك أن ولاة الأمور الذين ولاهم الله على المسلمين في بعضهم تقصير ، وفي بعضهم تهاون . يتهاونون بالأمر في أوله حتى ينمو ويزداد ، وحينئذ يعجزون عن صده . فالواجب أن يقابل الشر من أول أمره بقطع دابره ، حتى لا ينتشر ولا يضل الناس به .
المهم أن إزالة الأذى عن الطريق ، والطريق الحسي ،طريق الأقدام ، والطريق المعنوي ، طريق القلوب ، والعمل على إزالة الأذى عن هذا الطريق كله مما يقرب إلى الله . وإزالة الأذى عن طريق القلوب ، والعمل الصالح أعظم أجراً ، وأشد إلحاحاً من إزالة الأذى عن طريق الأقدام . والله الموفق .
* * *
128 ـ الثاني عشر : عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة ، فاستمع , أنصت ، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ، ومن مس الحصا فقد لغا ) رواه مسلم(130).
الشرح
في هذا الحديث دليل على أن الحضور إلى الجمعة بعد أن يحسن الإنسان وضوءه ، ثم يستمع إلى الخطيب وهو يخطب ، وينصت ،فإنه يغفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة ، وفضل ثلاثة أيام ، وهذا عمل يسير ليس فيه مشقة على الإنسان ؛ أن يتوضأ ويحضر إلى الجمعة ن وينصت لخطبة الإمام حتى يفرغ .
وقوله في هذا الحديث ( من توضأ ) لا يعارض ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )(131)فإن هذا الحديث الثاني فيه زيادة على الحديث الأول ، فيؤخذ بها . كما أنه أيضاً أصح منه . فإنه أخرجه الأئمة السبعة ، وهذا لم يخرجه إلا مسلم ، فيجب أولاً على من أراد حضور الجمعة أن يغتسل وجوباً ، فإن لم يفعل كان آثماً ، ولكن الجمعة تصح ، لأن هذا الغسل ليس عن جنابة حتى نقول أن الجمعة لا تصح ؛ بل هو غسل واجب كغيره من الوجبات ، إذا تركه الإنسان أثم وإن فعله أثيب .
ويدل على أنه ليس شرطاً لصحة الصلاة وإنما هو واجب ؛ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ دخل ذات يوم وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال أمير المؤمنين عمر : لماذا تأخرت ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت ثم أتيت ، يعني كأنه شغل ـ رضي الله عنه ـ ولم يتمكن من الحضور مبتكراً . فقال عمر ـ وهو على المنبر والناس يسمعون ـ قال الأمير المؤمنين عـثمان : والوضوء أيضاً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)(132) يعني كيف تقتصر على الوضوء ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ) فأمر من أتى الجمعة بالاغتسال ؟! ولكن لم يقل له اذهب فاغتسل ، لأنه لو ذهب واغتسل ، فربما تفوته الجمعة التي من أجلها وجب الغسل فيضيع الأصل إلى الفرع .
فالحاصل أن هذا الحديث الذي ساقه المؤلف ، وإن كان يدل على عدم وجوب الاغتسال ؛ لكن هناك أحاديث أخرى تدل على وجوب الاغتسال .
وفي هذا الحديث دليل على فضيلة الاستماع إلى الخطبة ، والإنصات ، والاستماع : أن يرعاها سمعه ، والإنصات : ألا يتكلم ، هذا الفرق بينهما . فيستمع الإنسان ويتابع بسمعه كلام الخطيب ، ولا يتكلم . وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أن ( من يتكلم يوم الجمعة والأمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً )(133) والحمار أبلد الحيوانات ، يحمل أسفاراً ـ يعني كتباً ـ ولكنه لا ينتفع بالكتب إذا حملها ؟ ووجه الشبه بينهما أن هذا الذي حضر لم ينتفع بالخطبة لأنه تكلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي يقول له : أنصت ـ يعني يسكته ـ فقد لغا )(134) ومعنى لغا أي فاته أجر الجمعة ، فالمسألة خطيرة .
ولهذا قال هنا : ( ومن مس الحصى فقد لغا ) وقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرش المسجد بالحصبة ، وهي الحصى الصغار مثل العدس ، أو أكبر قليلاً ، أو أقل ، يفرش بها الفرش التي نفرشها الآن ، فكان بعض الناس ربما يعبث بالحصى ، يحركها بيده ، أو يمسحها بيده ، أو ما أشبه ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم ( من مس الحصى فقد لغا ) لأن مس الحصى يلهيه عن الاستماع للخطبة ، ومن لغا فلا جمعة له ، يعني يحرم ثواب الجمعة التي فضلت بها هذه الأمة على غيرها .
وإذا كان هذا في مس الحصى ، فكذلك أيضاً الذي يعبث بغير مس الحصى ، الذي يعبث بتحريك القلم ، أو الساعة ، أو المروحة التي يحركها ويلفها دون حاجة ، أو الذي يعبث بالسواك ، يريد أن يتسوك والإمام يخطب إلا لحاجة ، كأن يأتيه النوم أو النعاس ؛ فأخذ يتسوك ليطرد النعاس عنه ؛ فهذا لا بأس به ، لأنه لمصلحة استماع الخطبة ، وقد سئلنا عن الرجل يكتب ما يستمعه في الخطبة ؛ لأن بعض الناس ينسى فيقول : أنا كلما مرت على جملة مفيدة أكتبها ، هل يجوز أم لا ؟ فالظاهر أنه لا يجوز ، لأن هذا إذا اشتغل بالكتابة تلهى عما يأتي بعدها ، لأن الإنسان ليس له قلبان . فإذا كان يشتغل بالكتابة تلهى عما يقوله الخطيب أثناء كتابته لما سبق ، ولكن الحمد لله ، الآن قد جعل الله للناس ما يرحهم ، حيث جاءت هذه المسجلات . فبإمكانك أن تحضر المسجل تسجل الخطبة في راحة ، وتستمع إليها في بيتك ، أو في سيارتك ، على أي وضع كنت . والله الموفق .
* * *
129 ـ الثالث عشر : عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا توضأ العبد المسلم ، أو المؤمن ، فغسل وجهه ، وخرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء ، أو مع أخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ، أو مع أخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب ) رواه مسلم(135) .
الشرح
ذكر المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في فضائل الوضوء الذي أمر الله به في كتابه ، في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (المائدة:6) .
هذا الوضوء تطهر فيه الأعضاء الأربعة ؛ الوجه ، اليدان ، والرأس ، والرجلان ، وهذا التطهير يكون تطهيراً حسياً ، ويكون تطهيراً معنوياً . أما كونه تطهيراً حسياً فظاهر ؛ لأن الإنسان يغسل وجهه ، ويديه ، ورجليه ، وي