وعن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن نبي الله صلي
الله عليه وسلم قال: (( كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن اعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فاتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا ، فقتله فكمل مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلي أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله - تعالي- فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلي الله تعالي، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فاتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم- أي حكما- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلي أيتها كان أدني فهو له، فقاسوا فوجدوه أدني إلي الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة))(68) ( متفق عليه).
وفي رواية في الصحيح: (( فكان إلي القرية الصالحة أقرب بشبر، فجعل من أهلها)) وفي رواية في الصحيح : (( فاوحي الله تعالي إلي هذه أن تباعدي، وإلي هذه أن تقربي، وقال: قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلي هذه أقرب بشبر فغفر له)) وفي رواية: (( فنأي بصدره نحوها)).
الشرح
نقل المؤلف- رحمه الله- عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم إنه ندم وسال عن أعلم أهل الأرض يسأله: هل له من توبة؟ فدل على رجل ، فإذا هو راهب -يعني عابداً- ولكن ليس عنده علم، فلما سأله قال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فاستعظم الراهب هذا الذنب وقال: ليس لك توبة! فغضب الرجل وانزعج وقتل الراهب؛ فأتم به مائة نفس، ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقط له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم! ومن الذي يحول بينه وبين التوبة؟ باب التوبة مفتوح، ولكن اذهب إلي القرية الفلانية؛ فإن فيها قوماً يعبدون الله. والأرض التي كان فيها كأنها- والله أعلم- دار كفر فأمره هذا العالم أن يهاجر بدينه إلي هذه القرية التي يعبد فيها الله- سبحانه وتعالي- ، فخرج تائبا نادماً مهاجراً بدينه إلي الأرض التي فيها القوم الذين يعبدون الله عز وجل. وفي منتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة العذاب، والمؤمن تقبض روحه ملائكة الرحمة، فاختصموا ؛ ملائكة العذاب تقول: إنه تاب وجاء نادماً تائباً، فحصل بينهما خصومة ، فبعث الله إليهم ملكاً ليحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلي أيتها كان أقرب فهو له؛ يعني فهو من أهلها. إن كانت أرض الكفر أقرب إليه فملائكة العذاب تقبض روحه، وإن كان إلي بلد الإيمان أقرب فملائكة الرحمة تقبض روحه.
فقاسوا ما بينهما؛ فإذا البلد التي اتجه إليها- وهي بلد الإيمان -أقرب من البلد التي هاجر منها بنحو شبر - مسافة قريبة - فقبضته ملائكة الرحمة.
ففي هذا دليل علي فوائد كثيرة:
منها: أن القاتل إذا قتل إنساناً عمداً ثم تاب فإن الله - تعالي- يقبل توبته، ودليل ذلك في كتاب الله قوله تعالي: )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(النساء: من الآية48) )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(النساء: من الآية48) )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(النساء: من الآية48)، يعني ما دون الشرك، فإن الله تعالي يغفره إذا شاء.
وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وذكر عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أن القاتل ليس له توبة؛ لأن الله يقول: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) .
ولكن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، وما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- فإنه يمكن أن يحمل على أنه ليس توبة بالنسبة للمقتول؛ وذلك لأن القاتل إذا قتل تعلق فيه ثلاثة حقوق:
الحق الأول: لله، والثاني: للمقتول، والثالث: لأولياء المقتول.
أما حق الله؛ فلا شك أن الله تعالي يغفره بالتوبة، لقول الله تعالي: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ )(الزمر: من الآية53).
ولقوله تعالي: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ و)(الفرقان: من الآية68/70).
وأما حق المقتول؛ فإن توبة القاتل لا تنفعه ولا تؤدي إليه حقه؛ لأنه مات، ولا يمكن الوصول إلي استحلاله، أو التبرؤ من دمه، فهذا هو الذي يبقي مطالباً به القاتل ولو تاب ، وإذا كان يوم القيامة فالله يفصل بينهما.
وأما حق أولياء المقتول، فإنها لا تصح توبة القاتل؛ حتى يسلم نفسه إلي أولياء المقتول ، ويقر بالقتل، ويقول : أنا القاتل، وأنا بين أيديكم ، إن شئتم اقتلوني وإن شئتم خذو الدية، وإن شئتم اسمحوا ، فإذا تاب إلي الله، وسلم نفسه لأولياء المقتول- يعني لورثته - فإن توبته تصح، وما بينه وبين المقتول يكون الحكم فيه إلي الله يوم القيامة.
21- وعن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب- رضي الله عنه- من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه- يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك: قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله - تعالي- بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب حين تخلفت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلي الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازاً واستقبل عدداً كثيراً، فجلي للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ ( يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفي به ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلي الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر(69) ، فتجهز رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئاً ، وأقول في نفسي: أنا قادر علي ذلك إذا أردت ، فلم يزل يتمأدي بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل يتمادي بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو(70) فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلي الله عليه وسلم يحزنني أني لا أري لي أسوة، إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر الله تعالي من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله صلي الله عليه وسلم حبسه برداه، والنظر في عطفيه، (71)فقال له معاذ بن جبل - رضي الله عنه-: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلي الله عليه وسلم فبينا هو على ذلك رأي رجلاً مبيضاً(72) يزول به السراب ، فقل رسول الله صلي الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة، فإذا هو ابو خيثمة الأنصاري- وهو الذي تصدق بصلع من التمر حين لمزه المنافقون، قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي(73) فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً، واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقة، وأصبح رسول الله صلي الله عليه وسلم قادماً، وكأن إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم ، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلي الله تعالي حتى جئت، فلما سلمت تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي، ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعن ظهرك؟ لرأيت أتي سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، لكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضي به عني ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد عل فيه إني لأرجو فيه عقبي الله عز وجل، والله ما كأن لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوي ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك)) وسار رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون،فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلي الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم؛ لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي؟ قال: فذكروا لي رجلين قد شهدا بدرا فيهما أسوة. قال: حين ذكرؤهما لي، ونهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا علي ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فاسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا حال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط(74) أبي قتادة ؛ وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله صلي الله عليه وسلم ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة؟ إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً.فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك ،فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء ، فتيممت بها التنور فسجرتها(75) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي(76) إذا رسول رسول الله صلي الله عليه وسلم ياتيني، فقال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امراتك، فقلت: أطلقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها ، وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك.فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجأءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال ابن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا ، ولكن لا يقربنك. فقالت: إنه والله ما به من حركة إلي شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلي يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في امرأتك ،فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: استأذنته فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! فلبث بذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عنن كلامنا.
ثم صليت صلاة الفجر صباح ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالي منا، قد ضاقت علة نفسي وضاقت على الأرض بما رحبت ، سمعت صوت صارخ أوفي على سلع(77) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك ابشر ، فحخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج. فأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم الناس بتوبة الله- عز وجل- علينا حين صلي صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعي ساع من أسلم قبلي وأوفي على الجبل، وكان الصوت أسرع النبي صلي الله عليه وسلم الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمم(78) رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله-رضي الله عنه- يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيرة، فكأن كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلي الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله- عز وجل- وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منهن فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن نخلع من مالي صدقة إلي الله وإلي رسوله. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أمسك عليك بغض مالك فهو خير لك، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إن الله تعالي إنما أنجاني بالصدق ، وإن توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه(79) الله- تعالي-في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم إلي يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالي- فيما بقي، قال: فنزل الله تعالي: )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) حتى بلغ: ( إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) )وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَت) حتى بلغ: ) وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(التوبة: من الآية117/119) قال كعب: والله ما أنعم الله على من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا: إن الله تعالي قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد، فقال الله تعالي: )سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:95/96) .
قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أؤلئك الذين قبل منهم رسول الله صلي الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرنا حتى قضي الله- تعالي- فيه بذلك؟ قال الله تعالي: )وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. متفق عليه (80).
وفي رواية : (( أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس ، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
وفي رواية: وكان لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضحى ، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلي ركعتين ثم جلس فيه.
الشرح
هذا حديث كعب بن مالك، في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.
غزا النبي صلي الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى حين بلغه أنهم يجمعون له، فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام بتبوك عشرين ليلة، ولكنه لم ير كيداً ولم ير عدوا فرجع. وكانت هذه الغزوة في أيام الحر حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبون الدنيا على الآخرة، فتخلف المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلي الظل والرطب والتمر ، وبعدت عليهم الشقة والعياذ بالله.
أما المؤمنون الخلص، فإنهم خرجوا مع النبي- عليه الصلاة والسلام- ولم يثن عزمهم بعد الشقة ولا طيب الثمار.
إلا أن كعب بن مالك- رضي الله عنه- تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين الخلص، ولهذا قال: (( إنه ما تخلف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط)) كل غزوات الرسول صلي الله عليه وسلم قد شارك فيها كعب- رضي الله عنه- فهو من المجاهدين في سبيل الله (( إلا في غزوة بدر)) ، فقد تخلف فيها كعب وغيره، لأن النبي صلي الله عليه وسلم - عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا يريد القتال، ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط؛ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيرا لقريش، أي إبل محملة قدمت من الشام تريد مكة وتمر بالمدينة.
فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام_ من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها، وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ فلهذا كانت أموالهم غنيمة للنبي- عليه الصلاة والسلام- ويحل له أن يخرج ليأخذها ، وليس في ذلك عدوان من رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه، بل هذا أخذ لبعض حقهم.
خرج الرسول صلي الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس معهم إلا سبعون بعيراً وفرسان فقط؛ وليس معهم عدة والعدد قليل ، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينقذ الله ما أراد عز وجل.
فسمع ابو سفيان - وهو قائد العير- أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير؛ فعدل عن سيره إلي الساحل وأرسل إلي قريش صارخاً يستنجدهم - أي يستغيثهم- ويقول: هلموا أنقذوا العير.
خرجوا كما قال الله عنهم، خرجوا من ديارهم )ْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)(لأنفال: من الآية47)
ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نجت تراجعوا فيما بينهم وقالوا: العير نجت، فلما لنا وللقتال؟ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونسقي الخمور ، ونطعم الطعام، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا!.
هكذا قالوا، بطرا واستكبارا وفخرا، ولكن- الحمد لله- صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يذق العرب مثلها، لما التقوا بالنبي- عليه الصلاة والسلام- وزكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر منه، التقوا فأوحي الله عز وجل إلي الملائكة : ) أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ )(لأنفال: من الآية12)، انظر! في الآية تثبيت للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فما أقرب النصر في هذه الحال ؟! رعب في قلوب الأعداء، وثبات في قلوب المؤمنين.
فثبت الله المؤمنين ثباتاً عظيماً، وأنزل في قلوبهم الذين كفروا الرعب.
قال الله سبحانه )َ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)(لأنفال: من الآية12)، أي : كل مفصل ، واضربوا فالأمر ميسر لكم.
فجعل المسلمون- ولله الحمد- يجلدون فيهم؛ فقتلوا سبعين رجلاً واسروا سبعين رجلاً، والذين قتلوا ليسوا من أطرفهم، الذين قتلوا كلهم من صناديهم وكبرائهم، وأخذ منهم أربعة وعشرون رجلاً يسحبون سحباً وألقوا في قليب من قلب بدر، سحبوا حتى ألقوا في القليب جثثاً هامدة، ووقف عليهم النبي - عليه الصلاة والسلام_ وقال لهم: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا. فقالوا : يا رسول الله، كيف تكلم أناساً قد جيفوا؟ قال: (( والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون))(81)؛ لأنهم موتي، وهذه - ولله الحمد- نعمة، علينا أن نشكر الله عز وجل عليها كلما ذكرناها.
نصر الله نبيه، وسمي الله هذا اليوم ) عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ )(لأنفال: من الآية41).
هذا اليوم فرق الله فيه الحق والباطل تفريقاً عظيماً. وانظر إلي قدرة الله عز وجل في هذا اليوم، انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً على نحو ألف رجل أكمل منهم عدة وأقوي، وهؤلاء ليس معهم إلا عد قليل من الإبل والخيل، لكن نصر الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد، وإلي هذا أشار الله بقوله )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ )(آل عمران: من الآية123) ، ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشر ألفاً وأمامهم هوزان وثقيف؛ فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فغلبهم ثلاثة آلاف وخمس مائة رجل. غلبوا اثني عشر ألف رجل بقيادة النبي صلي الله عليه وسلم ، لنهم أعجبوا بكثرتهم، قالوا: لن نغلب اليوم عن قله، فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لن تنفعهم.
قال الله تعالي: ) وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(التوبة: من الآية25).
أترون ماذا حصل لأهل بدر؟
اطلع الله عليهم وقال لهم: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم.
كل معصية تقع منهم فإنها مغفورة، لأن الثمن مقدم.
فهذه الغزوة صارت سبباً لكل خير، حتى إن حاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- لما حصل منه ما حصل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزوهم غزوة الفتح كتب هو- رضي الله عنه- إلي أهل مكة يخبرهم ، ولكن الله أطلع نبيه علي ذلكز أرسل حاطب بن أبي بلتعة بن علي أبي طالب وواحداً معه حتى لحقوها في روضة تسمي روضة خاخ، فأمسكوها وقالوا لها: أين الكتاب؟ فقالت : ما معي كتاب ، فقالوا لها: أين الكتاب؟ والله ما كبنا ولا كبنا، أين الكتاب؟ لتخرجنه أو لننزعن ثيابك؟ فلما رأت ذلك لأخرجته، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلي قريش ، فأخذوه.
والحمد لله أنه لم يصل إلي قريش ، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب، لأن الذي أراد ما حصل من نعمة الله.
فلما ردوا الكتاب إلي النبي صلي الله عليه وسلم قال له: (( يا حاطب ، ما هذا ))؟ فاعتذر.
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (( إنه قد شهد بدراً، وما يدريك ، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم))(82).
وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه.
فالمهم أن هذه تخلف عنها كعب، لكنها ليست في أول الأمر، إلا في ثاني الحال؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يخرج لقتال، وإنما خرج للعير، ولكن الله جمع بيته وبين عدوه على غير ميعاد، وكانت غزاة مباركة ولله الحمد. ثم ذكر بيعته النبي صلي الله عليه وسلم ليلة العقبة في مني، حيث بايعوا النبي صلي الله عليه وسلم على الإسلام وقال: إنني لا أحب أن يكون لي بدلها بدر.
يعني هي أحب إليه من غزوة؛ لأنها بيعة عظيمة.
لكن يقول : كانت بدر أذكر في الناس منها، أي أكثر ذكراً، لأن الغزوة اشتهرت بخلاف البيعة.
علي كل حال- رضي الله عنه- يسلي نفسه بأنه إن فاتته بدر فقد حصلت له بيعة العقبة، فرضي الله عن كعب وعن جميع الصحابة.
يقول رضي الله عنه: (( إني لم أكن قط اقوي ولا ايسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة)) - أي: غزوة تبوك- كان قوي البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبداً، وقد استعد وتجهز- رضي الله عنه- وكان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة وري بغيرها، أي: أظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في الحرب، لأن لو أظهر وجهه تبين ذلك لعدوه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن مكانة الذي قصده النبي صلي الله عليه وسلم فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلي الجنوب وري وكأنه يريد أن يخرج إلي الشمال، أو لا أراد أن يخرج إلي الشرق وري وكأنه يريد أن يخرج إلي الغرب حتى لا يطلع العدو على أسراره . إلا في غزوة تبوك ، فإن النبي صلي الله عليه وسلم بين امرها ووضحها وجلاها لأصحابه ؛ وذلك لأمور:
أولاً: إنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار ، والنفوس مجبولة عللا الركون إلي الكسل وإلي الرخاء.
ثانيا: أن المدى بعيد من المدينة إلي تبوك، ففيها مفاوز ورمال وعطش وشمس.
ثالثاً: أن العدو كثير وهم الروم، اجتمعوا في عدد هائل حسب نا بلغ النبي صلي الله عليه وسلم ، فلذلك جلي امرها وأوضح أمر الغزاة ، وأخبر أنه خارج إلي المسلمون مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يتخلف إلا من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم. هؤلاء من المؤمنين الخلص، لكن تخلفوا لأمر أراده الله عز وجل . أما غيرهم ممن تخلف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية. فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- بأصحابه- وهم كثير- إلي جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالي لم يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يوماً في ذلك المكان، ثم انصرف علي غير حرب.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (( إن الرسول صلي الله عليه وسلم تجهز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة.
أما هو - رضي الله عنه- فتأخر وجعل يغدو كل صباح يرحل راحلته ويقول: ألحق بهم، ولكنه لا يفعل شيئاً، ثم يفعل كل يوم، حتى تمادي به الأمر ولم يدرك.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه- حري أن يحرم إياه، كما قال الله سبحانه )وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110) فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعن له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه- والعياذ بالله- كما أن الإنسان إذا لم يصبر علي المصيبة من أول الأمر فإنه يحرم أجرها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (( إنما الصبر عند الصدمة الأولي))(83).
فعليك- يا أخي - أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادي بك الأيام ثم تعجز وتكسل ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر ، فها هو- رضي الله عنه- كل يوم يقول: أخرج، ولكن تمادي به الأمر ولم يخرج.
يقول: فكان يحز في نفسه أنه إذا خرج إلي سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصارن إلا رجل مغموس في النفاق- والعياذ بالله- قد غمسه نفاقة فلم يخرج، أو رجل معذور عذره الله عز وجل. فكان يعتب علي نفسه : كيف لا يبقي في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم. ورسول الله صلي الله عليه وسلم لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وصل إلي تبوك.
فبينما هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله أين كعب بن مالك؟ فتكلم فيه رجل من بني سلمه وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ ابن جبل - رضي الله عنه- فسكت النبي صلي الله عليه وسلم ولم يجب بشيء ، لا على الذي غمزه ولا على الذي رد.
فبينما هو كذلك إذ رأي رجلاً مبيضاً ، يعنني بياضاً يزول به السراب من بعيد، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( كن ابا خيثمة الأنصاري)) فكان ابا خيثمة.
وهذا إما من فراسة النبي - عليه الصلاة والسلام- وإما من قوة نظره صلي الله عليه وسلم .
ولا شك انه من أقوي الرجال نظرا وسمعا ونطقا وفي كل شيء.
وأعطي قوة ثلاثين رجلاً بالنسبة للنساء- عليه الصلاة والسلام- وكذلك أعطي قوة في غير ذلك، صلوات ربي وسلامه عليه.
وأبو خثيمة هذا هو الذي تصدق بصاع عندما حث النبي صلي الله عليه وسلم علي الصدقة، فتصدق الناس كل بحسب حاله. فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا مراء ما أكثر الصداقة ابتغاء وجه الله، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة قالوا: إن الله غني عن صاع هذا.
انظر- والعياذ بالله- يلمزون المؤمنين من هنا ومن هنا، كما قال الله )الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ )(التوبة: من الآية79)أي : إذا تصدقوا بما يستطيعون قالوا: إن الله غني عن صاعك.
وهكذا المنافق شر على المسلمين، فإن رأي أهل البخير لمزهمن وإن رأي المقصرين لمزهم، وهو أخبث عباد الله، فهو في الدرك السفل من النار. والمنافقون في زمننا هذا إذا أرادوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: هؤلاء متزمتون، هؤلاء متشددون، وهؤلاء أصوليون، هؤلاء رجعيون، وما أشبه ذلك من الكلام.
فكل هذا موروث عن المنافقين في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلي يومنا هذا.
لا تقولوا ليس عندنا منافقون بل عندنا منافقون ولهم علامات كثيرة!!
وقد ذكر ابن القيم- رحمه اله- في كتابه (( مدارج السالكين)) في الجزء الأول صفات كثيرة من صفات المنافقين، كلها مبينة في كتاب الله عز وجل متزمت، هذا بخيل، لله غني عن صدقته. وإذا رأيت رجلاً يلمز المؤمنين من هنا ومن هنا، فاعلم أنه منافق والعياذ بالله )الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:79) )الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:79) )الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:79) فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولي: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لابد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل .
وأذكر حديثاً قاله النبي- عليه الصلاة والسلام- في الذين يتقدمون إلي المسجد ولكن لا يتقدمون إلي الصف الأول، بل يكونون في مؤخره. قال(( لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخركم الله)(84).
إذا عود الإنسان نفسه على التأخير آخره الله عز وجل.فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين، إن تصدق المسلمون بكثير قالوا: هؤلاء مراؤون ، وإن قللوا بحسب طاقتهم قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك ، كما سبق.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه- أي: بما يعادل تمرة- كما يربي أحدكم فلوه- أي مهره: الحصان الصغير - حتى تكون مثل الجبل،(85) وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل قال الرسول عليه الصلاة والسلام : (( اتقوا النار ولو بشق تمرة))(86) ، أي: نصف تمرة، بل قال الله عز وجل: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7/
، والله سبحانه وتعالي لا يضيع أجر المحسنين.
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي صلي الله عليه وسلم رجع قافلاً من الغزو، بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذباَ، من أجل أن يعذره النبي صلي الله عليه وسلم فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ من الباطل، وعزم على أن يبين للنبي صلي الله عليه وسلم الحق، يقول: فقدم النبي صلي الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام، وهكذا أمر جابراً-رضي الله عنه- كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد وصلي وجلس للناس فجاءه المخلفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فبايعهم ويستغفر لهم ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛ لأن الله قال: )اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )(التوبة: من الآية80)، فيقول : أما أنا فعزمت أن اصدق النبي - عليه الصلاة والسلام_ وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب- أي: الذي غير راض عني- ثم قال: ((تعال)) فلما دنوت منه قال لي: (( ما خلفك؟)).
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلاً- يعني لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه لأن الله أعطاني جدلاً- ولكني لا أحدثك اليوم حديثا ترضي به عني فيوشك أن يسخط الله على في ذلك. رضي الله عنه.
انظر إلي الإيمان ! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب ، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله علي.
فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم بالصدق ، فأجله.
وفي هذا من الفوائد:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالي قد يمن على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حسن النية.
فإن كعبا- رضي الله عنه- لما هم أن يزور على الرسول - عليه الصلاة والسلام- جلي الله ذلك عن قلبه وأزاحه عن قلبه، وعزم على ان يصدق النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أنه ينبغي للإنسان إذا قدم بلده، أن يعمد إلي المسجد قبل أن يدخل إلي بيته فيصلي فيه ركعتين، لأن هذه سنة النبي- عليه الصلاة والسلام- القولية والفعلية. أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- حين باع علي النبي صلي الله عليه وسلم جملة في أثناء الطريق واستثني أن يركبه إلي المدينة وأعطاه النبي صلي الله عليه وسلم شرطه، فقدم جابر المدينة وقد قدم النبي صلي الله عليه وسلم قبله فجاء إلي رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين(87).
وما أظن أحداً من الناس اليوم- إلا قليلاً - يعمل هذه السنة، وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدني مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنة.
ثالثاً: أن كعب بن مالك- رضي الله عنه - رجل قوي الحجة فصيح، ولكن لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم الحق.
رابعاً: أن الإنسان المغضب قد يتسم، فإذا قال قائل : كيف أعرف أن هذا تبسم رضا أو تبسم سخط؟
قلنا: إن هذا يعرف بالقرائن ، كتلون الوجه وتغيره.
فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تبسم رضا بما صنع أو تبسم سخطاً عليه.
خامساً: أنه يجوز للإنسان أن يسلم قائماً علي القاعد؛ لأن كعبا سلم وهو قائم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (( تعال)).
سادساً: أن الكلام عن قرب أبلغ من الكلام عن بعد، فإنه كان بإمكان الرسول صلي الله عليه وسلم أن يكلم كعب بن مالك ولو كان بعيداً عنه، لكنه أمره أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والرد والمعاتبة، فلذلك قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : (( ادن)).
سابعاً: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه- حيث أنه قال: أنني أستطيع أن اخرج بعذر من الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله على فيه غداً.
ثامناً: إن الله يعلم السر وأخفي، فإن كعباً خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول- عليه الصلاة والسلام- فينزل الله فيه قرآناً، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلي الرسول - عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها حين ظاهر منها، فأنزل الله فيها آية من القرآن: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) .
يقول كعب : إنه أتي إلي الرسول صلي الله عليه وسلم وصدقه القول وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( أما هذا فقد صدق)) ويكفي له فخراً أن وصفه النبي - عليه الصلاة والسلام- بالصدق: (( أما هذا فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء)).فذهب الرجل مستسلماً لأمر الله عز وجل مؤمناً بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلحقه قوم من بني سلمه من قومه وجعلوا يزينون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تذنب ذنباً قبل هذا، يعني مما تخلفت به عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ويكفيك أن ستغفر لك رسول الله صلي الله عليه وسلم وإذا استغفر لك الرسول صلي الله عليه وسلم غفر الله لك، فارجع كذب نفسك، قل إني معذور ، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه. فهم أن يفعل رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلي في كتاب الله إلي يوم القيامة.
فسال قونه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.
يقول: (( فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً لي فيهما أسوة)).
أحياناً يقيض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسياً به.
فهو- رضي الله عنه- لما ذكر له هذان الرجلان- وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدراً - فقال: (( لي فيهما أسوة فمضيت)) أي: لم يرجع إلي النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلموهم.
فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا ، وتنكرت لهم الأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلموا لا يرد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام. وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقاً- لا يسلم عليهم السلام العادي.
يقول كعب : كنت أحضر واسلم على النبي صلي الله عليه وسلم فلا أدري: أحرك شفتيه برد السلام أم لا.
هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وما ظنك برجل يهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلاً ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا علي هذه الحال مدة خمسين يوماً، أي: شهراً كاملاً وعشرين يوماً. والناس قد هجروهم فلا يسلمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلموا. وكأنهم في الناس لإبل جرب لا يقربهم أحد.
فضاقت عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلي الله عز وجل ، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلم على تانبي - عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلي قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبداً، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا علي هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نساءهم. إلي هذا الحد ، فرق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يعزل عن امرأته؟ أمر عظيم، : (( إن النبي صلي الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)) قال: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال طلقها لطلقها بكل سهولة؛ طاعة الله ورسوله، فسأل قال: أطلقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يأمرك ان تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ. حتى الصحابي الذي أرسل ما حرف النص، لا معني ولا لفظاً، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم، ما قال: أظن أنه يريد أن تطلقها، ولا: أظن انه يريد أن لا تطلقها! ما قال شيئاً، بل قال: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال هذا. فقال كعب لزوجته الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.
(( فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان)) لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في السواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلم عليهم أحد، وإذا سلموا لا يرد عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: (( وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم)) اشبهم : أقواهم واجلدهم : أصبرهم. لأنه أشب منهم أصغر منهم سناً، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- أطوع الناس لرسول الله صلي الله عليه وسلم .
يقول: (( وكنت آتي المسجد فاصلي واسلم على النبي صلي الله عليه وسلم وهو جالس للناس بعد الصلاة فأقول: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا )).
أي: ما يرد عليه رداً يسمع، هذا مع أن النبي صلي الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ولكن امتثالاً لما أوحي الله إليه أن يهجر هؤلاء القوم هجرهم.
ويقول: كنت اصلي واسارق النبي صلي الله عليه وسلم النظر، يعني: أنظر إليه أحياناً وأنا اصلي ، فإذا قبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت إليه أعرض عني.
كل هذا من شدة الهجر.
يقول: (( فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال على جفوة الناس، تسورت حائطاً لأبي قتادة رضي الله عنه)) تسوره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مغلق. والعلم عند الله.
يقول: (( فسلمت عليه، فوالله ما رد على السلام)) وهو ابن عمه وأحب الناس إليه ، ومع ذلك لم يرد عليه السلام، مع أن الرجل كان مجفيا من الناس منبوذاً، لا يكلم ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يحابون أحداً في دين الله ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني احب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه.
مرتين يناشده مناشدة هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا ؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما رد عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فقال: الله ورسوله أعلم.
لم يكلمه ، فلم يقل : نعم؟ ولا قال: لا.
يقول : ففاضت عيناي، أي: بكي- رضي الله عنه- أن رجلاً- ابن عمه- أحب الناس إليه لا يكلمه مع هذه المناشدة العظيمة.
مع أنها- أيضاً- مسالة تعبديه، لأن قوله أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلب شهادة ، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.
وتسور البستان أي: خرج إلي السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نبطي من أنباط الشام- والنبطي الذي ليس بعربي ولا بعجمي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء- يقول: من يدلني على كعب بن مالك!
انظر إلي أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني علي كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتباً؛ لأن الكتاب في ذلك العهد قليلون جداً.
يقول: (( فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك- يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك: ملك غسان كافراً-وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة ، يعني : تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.
ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالي ورسوله، ومحب لله ورسوله صلي الله عليه وسلم .
قال: وهذه من البلاء ، يعني: هذا من الامتحان. وصد رضي الله عنه، رجل مجفو لا يكلم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهز الفرصة بدعوة هذا الملك وذهب إليه، لكن عنده إيمان راسخ.
يقول: قلت: هذه من البلاء. ثم ذهب إلي التنور فسجره فيه: يعني أوقدها بالتنور.
وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلا توسوس له نفسه بعد لك ان يذهب إلي هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها ولا يحاول ان يجعلها حجة يذهب بها إلي هذا الملك. ثم بقي علي ذلك مدة.
ففي هذه القطعة من الحديث : دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذ[/right