37- وعن أبي سعيد وابي هريرة- رضي الله عنهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( ما يصيب المسلم من نصب ولا صب ، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه))(130) ( متفق عليه)، ((والوصب)) المرض
38- وعن أبي مسعود- رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي صلي الله عليه وسلم وهو يوعك ، فقلت: يا رسول الله الله، إني توعك وعكا شديداً قال: (( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: (( أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذي ؛ شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، وخطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) (131)( متفق عليه).
و(( الوعك)) مغث الحمي، وقيل : الحمي.
الشرح
هذان الحديثان : حديث أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنهم- فيهما دليل علي أن الإنسان يكفر عنه بما يصيبه من الهم والنصب والغم وغير ذلك، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالي، يبتلي سبحانه وتعالي عبده بالمصائب وتكون تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه.
والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يبقي مسروراً دائماً، بل هو يوماً يسر ويوماً يحزن، ويوماً يأتيه شيء ويوماً لا يأتيه ، فهو مصاب بمصائب في نفسه ومصائب في بدنه. ومصائب في مجتمعه ومصائب في أهله، ولا تحصي المصائب التي تصيب الإنسان، ولكن المؤمن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خير له.
فإذا أصبت بالمصيبة فلا تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك ولو كان شوكة، لا تظن أنه يذهب سدي، بل ستعوض عنه خيراً منه، ستحط عنك الذنوب كما تحط الشجرة ورقها، وهذا من نعمة الله.
وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب، يعني: احتساب الأجر، كان له مع هذا أجر.
فالمصائب تكون على وجهين:
تارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله، فيكون فيها
فائدتان: تكفير الذنوب؛ وزيادة الحسنات.
وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويصيبه ضجر أو ما أشبه ذلك، ويغفل عن
نية احتساب الأجر والثواب على الله، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه.
فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر؛ لأنه لم ينو شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر. وإما أن يربح شيئين: تكفير السيئات، وحصول الثواب من الله عز وجل كما تقدم.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا اصيب ولو بشوكة، فليتذكر احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة، حتى يؤجر عليها، مع تكفيرها للذنوب.
وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالي وجوده وكرمه، حيث يبتلي المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى أو يكفر عنه سيئاته .
فالحمد لله رب العالمين.
* **
39-وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يصب منه))(132) ( رواه البخاري).
الشرح
قوله(( يصب)) قرئت بوجهين : بفتح الصاد( يصب) وكسرها( يصب) وكلاهما صحيح.
أما (( يصب منه)) فالمعني أن الله يقدر عليه المصائب حتى يبتليه بها: أيصبر أم يضجر . وأما (( يصب منه)) فهي أعم، أي: يصاب من الله ومن غيره.
ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل على أن المراد: من يرد الله به خيراً فيصبر ويحتسب، فيصيب الله منه حتى يبلوه.
أما إذا لم يصبر فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس فيه خير، ولم يرد الله به خيراً.
فالكفار يصابون بمصائب كثيرة، ومع هذا يبقون على كفرهم حتى يموتوا عليه، وهؤلاء بلا شك لم يرد بهم خيرا.
لكن المراد: من يرد الله به خيراً فيصيب منه فيصبر منه فيصبر علي هذه المصائب، فإن ذلك من الخير له، لأنه سبق أن المصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا، ومن المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحط الخطايا لا شك أنه خير للإنسان، لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب دنيوية تزول بالأيام ، كما مضت الأيام خفت عليك المصيبة، لكن عذاب الآخرة باق- والعياذ بالله- فإذا كفر الله عنك بهذه المصائب صار ذلك خيراً لك.
* * *
40- وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي))(133) ( متفق عليه).
في هذا الحديث نهي النبي صلي الله عليه وسلم الإنسان أن يتمني الموت لضر نزل به. وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر يعجز عن التحمل ويتعب؛ فيتمني الموت، يقول: يارب أمتني، سواء قال ذلك بلسانه أو بقبله. فنهي النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)). فقد يكون هذا خيرا له.
ولكن إذا أصبت بضر فقل: اللهم أعني على الصبر عليه، حتى يعنيك الله فتصبر ، ويكون ذلك لك خيراً.
أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري ، ربما يكون الموت شراً عليك لا يحصل به راحة، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
الإنسان ربما يموت فيموت إلي عقوبة- والعياذ بالله- وإلي عذاب قبر، وإذا بقي قي الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلي الله فيكون خيراً له؛ فإذا نزل بك ضر فلا تتمن الموت، وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- نهي أن يتمني الإنسان للضر الذي نزل به، فكيف بمن يقتل نفسه إذا نزل به الضر، كما يوجد من بعض الحمقي الذين إذا نزلت بهم المضائق خنقوا أنفسهم أو نحروها أو أكلوا سما أو ما اشبه ذلك، فإن هؤلاء ارتحلوا من عذاب إلي أشد منه،لم يستريحوا ، لكن- والعياذ بالله- انتقلوا من عذاب إلي أشد. لأن الذي يقتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، كما جاء ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم (134) ، إن قتل نفسه بحديدة- خنجر أو سكين أو مسمار أو غير ذلك - فإنه يوم القيامة في جهنم يطعن نفسه بهذه الحديدة التي قتل بها نفسه.
وإن قتل نفسه بسم فإنه يتحساه في نار جهنم، وإن قتل نفسه بالتردي من جبل فإنه ينصب له جبل في جهنم يتردي من أبد الآبدين وهلم جرا!
فأقول : إذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- نهي أن يتمني الإنسان الموت للضر الذي نزل به، فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه ويبادر الله بنفسه، نسأل الله العافية.
ولكن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما نهي عن شيء ، كان من عادته إذا كان له بديل من المباح أن يذكر بديله من المباح كما هي طريقة القرآن، قال الله سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ) (البقرة:104) ، فلما نهي الله عن كلمة(( راعنا)) بين لنا الكلمة المباحة، قال: (وَقُولُوا انْظُرْنَا ) .
ولما جيء للنبي- عليه الصلاة والسلام- بتمر جيد استنكره وقال: ما هذا؟(( أكل تمر خيبر هكذا؟)) قالوا: لا، والله ي رسول الله، إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( لا تفعل، لكن بع الجمع بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً))(135) يعني تمراً طيبا. فلما منعه بين له الوجه المباح.
هنا قال: (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نول به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)).
فتح لك الباب لكنه باب سليم، لأن تمني الموت يدل على ضجر الإنسان وعدم صبره عل قضاء الله، لكن هذا الدعاء(( اللهم أحيني ما كنت الحياة خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)) هذا الدعاء وكل الإنسان فيه أمره إلي الله، لأن الإنسان لا يعلم الغيب، فيكل الأمر إلي عالمه عز وجل (( أحيني ما علمت الحياة خير لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي)).
تمني الموت استعجال من الإنسان بأن يقطع الله حياته، وربما يحرمه من خير كثير، ربما يحرمه من التوبة وزيادة الأعمال الصالحة، ولهذا جاء في الحديث: (( ما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب))(136) أي: استعتب من ذنبه وطلب العتبى ، وهي المعذرة.
فإن قال قائل: كيف يقول(( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي؟)).
نقول: نعم؛ لأن الله سبحانه يعلم ما سيكون، أما الإنسان فلا يعلم، كما قال الله )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )(النمل: من الآية65) ) وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ )(لقمان: من الآية34) فأنت لا تدري قد تكون الحياة خيراً لك، وقد تكون الوفاة خيراً لك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا دعا لشخص بطول العمر أن يقيد هذا فيقول: أطال الله بقاءك على طاعته، حتى يكون في طول بقائه خير.
فإن قال قائل: إنه قد جاء تمني الموت من مريم ابنة عمران حيث قالت: ) يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً)(مريم: من الآية23) ، فكيف وقعت فيما فيه النهي؟
فالجواب عن ذلك أن نقول:
أولاً: يجب أن نعلم أن شرع من قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس بحجة، لأن شرعنا نسخ كل ما سبقه من الأديان.
ثانياً: أن مريم لم تتمن الموت، لكنها تمنت الموت قبل هذه الفتنة ولو بقيت ألف سنة، المهم أن تموت بلا فتنة، ومثله قول يوسف عليه الصلاة والسلام (ِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(يوسف: من الآية101) ليس معناه سؤال الله أن يتوفاه، بل هو يسأل أن يتوفاه الله علي الإسلام، وهذا لا باس به، كأن يقول: اللهم توفني على الإسلام وعلى الإيمان وعلى التوحيد والإخلاص، أو توفني وأنت راض عني وما أشبه ذلك.
فيجب معرفة الفرق بين شخص يتمني الموت من ضيق نزل به، وبين شخص يتمني الموت على صفة معينة يرضاها الله عز وجل!.
فالأول: هو الذي نهي عنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثاني: جائز
وإنما نهي النبي - عليه الصلاة والسلام- عن تمني الموت لضر نزل به؛ لأن من تمني الموت لضر نزل به ليس عنده صبر، الواجب أن يصبر الإنسان علي الضر ، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل ، فإن الضرر الذي يصيبك من هم أو غم أو مرض أو أي شيء مكفر لسيئاتك ، فإن احتسبت الأجر كان رفعة لدرجاتك . وهذا الذي ينال الإنسان من الأذى والمرض وغيره لا يدوم ، لابد أن ينتهي ، فإذا انتهى وأنت تكسب حسنات باحتساب . الأجر على الله عز وجل ويكفر عنك من سيئاتك بسببه ؛ صار خيرا لك ، كما ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : (( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خير له ))(137) ، فالمؤمن على كل حال هو خير ، في ضراء أو في سراء .
* * *
41 ـ وعن عبد الله خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستضر لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون ))(138)( رواه البخاري )
وفي رواية : (( وهو متوسد برده ، وقد لقينا من المشركين شدة ))
الشرح
حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ يحكي ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة ، فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم : (( وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة )) صلوات الله وسلامه عليه . فبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من كان قبلنا ابتلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء ، يحفر له حفرة ثم يلقى فيها ، ثم يؤتي بالمنشار على مفرق رأسه ويشق ، يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ، بأمشاط الحديد يمشط ، وهذا تعزير عظيم وأذية عظيمة .
ثم أقسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر ، يعنى سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من دعوة الإسلام ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون . أي : فاصبروا وانتظروا الفرج من الله ، فإن الله سيتم هذا الأمر . وقد صار الأمر كما أقسم النبي عليه الصلاة والسلام .
ففي هذا الحديث آية من آيات الله ، حيث وقع الأمر مطابقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام .
وآية من آيات الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث صدقه الله بما أخبر به ، وهذه شهادة له من الله بالرسالة ، كما قال الله )لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (النساء:166) .
وفيه أيضا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين . وإذا صبر الإنسان ظفر !!
فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ، ولا يظن أن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة ، قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذونهم وربما يقتلونهم ، كما قتل اليهود الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين . فليصبر ولينتظر الفرج ولا يمل ولا يضجر ، بل يبقى راسيا كالصخرة ، والعاقبة للمتقين ، والله تعالى مع الصابرين .
فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود ولكن بدون فوضى وبدون استنفار وبدون إثارة ، ولكن بطريق منظمة ، لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطى ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم .
أما السطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويستنفروا ، فإنه قد يفوتهم شيء كثير ، وربما حصل منهم زلة تفسد كل ما بنوا ، إن كانوا قد بنوا شيئا .
لكن المؤمن يصبر ويتئد ، ويعمل بتودة ويوطن نفسه ، ويخطط تخطيطا منظما يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ، ويفوت عليهم الفرص ؛ لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير ، يريدون أن يثيروهم ، حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا : هذا الذي نريد ، وحصل بذلك شر كبير .
فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لأصحابه اصبروا ، فمن كان قبلكم ـ وأنتم أحق بالصبر منه ـ كان يعمل به هذا العمل ويصبر ، فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان ، اصبروا حتى يأتي الله بأمره ، والعاقبة للمتقين .
فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر ، ولكن أعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله ، ولا تمل ، فالدرب طويل ، لا سيما إذا كنت في أول الفتنة ، فإن القائمين بها سوف يحاولون ـ ما استطاعوا ـ أن يصلوا إلى قمة ما يريدون ، فاقطع عليهم السبيل ، وكن أطول منهم نفسا وأشد منهم مكرا ، فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ، ويمكر الله ، والله خير الماكرين ، والله الموفق .
42 ـ وعن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : لما كان يوم حنين ، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك ، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يؤمئذ في القسمة . فقال رجل : والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فقلت : والله لأخبرن رسول الله النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم ، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال : (( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال : يرحم الله موسى ،فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً(139) (متفق عليه) .
وقوله : (( كالصرف)) هو بكسر الصاد المهملة : وهو صبغ أحمر.
الشرح
هذا الحديث الذي نقله المؤلف- رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه (( لما كان غزوة حنين )) وهي غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة، غزاهم الرسول صلي الله عليه وسلم وغنم منهم غنائم كثيرة جداً من إبل، وغنم، ودراهم ودنانير، ثم إن النبي صلي الله عليه وسلم نزل بالجعرانة، وهي محل عند منتهى الحرم من جهة الطائف، نزل بها
وصار صلي الله عليه وسلم يقسم الغنائم، وقسم في المؤلفة قلوبهم-أي ك في كبائر القبائل- يؤلفهم على الإسلام ، وأعطاهم عطاء كثيراًن حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل.
فقال رجل من القوم : (( والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله)) نعوذ بالله- يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلي الله عليه وسلم لكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهلكة. نسأل الله العافية. هذه الكلمة كلمة كفر، أن ينسب الله ورسوله إلي عدم العدل، وإلي أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يرد بها وجه الله، ولا شك أن النبي صلي الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله ، أراد أن يؤلف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوى الإسلام ، لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير ، وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر ، واعتز الإسلام بهذا . ولكن الجهل ـ والعياذ بالله ـ يوقع صاحبه في الهلكة .
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ورفعها إليه . أخبره بأن الرجل يقول كذا وكذا ، فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف ـ أي كالذهب ـ من صفرته وتغيره ، ثم قال : (( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله )) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ! إذا كانت قسمة الله ليست عدلا ، وقسمة رسوله ليست عدلا ، فمن يعدل إذا ! ثم قال (( يرحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) .
والشاهد من الحديث هذه الكلمة ، وهي أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يؤذون ويصبرون ، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته . يعنى ليس في أول ، بل بعد ما مكن الله له ، وبعدما عرف صدقه وبعدما أظهر الله آيات الرسول في الآفاق وفي أنفسهم ، ومع ذلك يقال : هذه القسمة لم يعدل فيها ولم يرد بها وجه الله .
فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تستغرب أن يقول الناس في عالم من العلماء : أن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب ، لأن الشيطان هو الذي يؤز هؤلاء على أن يقدحوا العلماء ، لأنهم إذا قدحوا في العلماء سقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحد يقودهم بكتاب الله . ومن يقودهم بكتاب الله إذا لم يثقوا بالعلماء وأقوالهم ؟ تقودهم الشياطين وحزب الشيطان ، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء ، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية ، إن ضرت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة ، لكن غيبة العلماء تضر الإسلام كله ؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام ، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم ؛ سقط لواء الإسلام ، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية .
فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميتة ، فإن لحوم العلماء ميتة مسمومة ، لما فيها من الضرر العظيم ، فلا تستغرب إذا سمعت أحدا يسب العلماء ! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فيه ما قيل ، فاصبر ، واحتسب الأجر من الله عز وجل ، واعلم أن العاقبة للتقوى ، فمادام الإنسان في تقوى وعلى نور من الله عز وجل فإن العاقبة له .
وكذلك يوجد بعض الناس يكون له صديق أو قريب يخطئ مرة واحدة فيصفه بالعيب والسب والشتم ـ والعياذ بالله ـ في خطيئة واحدة .
وعلى هذا الذي وصف بالعيب أن يصبر ، وأن الأنبياء قد سبوا وأذوا وكذبوا ، وقيل إنهم مجانين ، وإنهم شعراء ، وإنهم كهنة ، وإنهم سحرة )فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا )(الأنعام: من الآية34) وهكذا يقول الله عز وجل .
ففي هذا الحديث : دليل على أن للإمام أن يعطى من يرى في عطيته المصلحة ولو أكثر من غيره ، إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام ، ليست مصلحة شخصية يحابي من يحب ويمنع من لا يحب ، ولكن إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وزاد في العطاء ، فإن ذلك إليه وهو مسؤول أمام الله ، ولا يحل لأحد أن يعترض عليه ، فإن اعترض عليه فقد ظلم نفسه .
وفيه : أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعتبر بمن مضى من الرسل ، ولهذا قال : لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، لأن الله تعالي يقول )لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)(يوسف: من الآية111) ويقول (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه) ( الأنعام : 90 ) ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء قبله .
وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الصبر على الأذى ، وأن نحتسب الأجر على الله ، وأن نعلم أن هذا زيادة في درجاتنا مع الاحتساب ، وتكفير لسيئاتنا . والله الموفق .
43 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة )) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء ،)ٍ وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي الله فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ))(140)( رواه الترمذي وقال : حديث حسن .
الشرح
الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته ، لأن الله تعالى يقول عن نفسه)فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج:16) ، ويقول إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(الحج: من الآية18) ، فكل الأمور بيد الله .
والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب ؛ فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا : إما بماله ، أو بأهله ، أو بنفسه ، أو بأحد ممن يتصل به ؛ لأن العقوبة تكفر السيئات ، فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد ، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب ، قد طهرته المصائب والبلايا ، حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه ، حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب ، وهذه نعمة ؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر ـ والعياذ بالله ـ ويفرح فرحا مذموما بما أنعم الله به عليه ، وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة ، نسأل الله العافية . فإذا رأيت شخصا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء وأدر عليه النعم ، فاعلم إنما أراد به شرا ؛ لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافى بها يوم القيامة .
ثم ذكر في هذا الحديث : (( إن عظم الجزاء من عظم البلاء )) يعنى أنه كلما عظم البلاء عظم الجزاء . فالبلاء السهل له أجر يسير ، والبلاء الشديد له أجر كبير ، لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس ، إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها الأجر الكبير ، وإذا هانت المصائب هان الأجر .
(( وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ومن سخطا فله السخط )) .
وهذه ـ أيضا ـ بشرى للمؤمن ، إذا ابتلى بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه ، بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد ، يبتليه سبحانه بالمصائب ، فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرضى ، وإن سخط فله السخط .
وفي هذا حث على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يكتب له الرضى من الله عز وجل . والله الموفق .
44- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كان ابن لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ يشتكي ، فخرج أبو طلحة ، فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم ـ وهي أم الصبي ـ : هو أسكن ما كان . فقربت إليه العشاء فتعشى ، ثم أصاب منها ، فلما فرغ قالت : واروا الصبي ، فلما أصبح أبو طلحة أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال (( أعرستم الليلة ؟ )) قال : نعم ، قال : (0 اللهم بارك لهما ؛ فولدت غلاما ، فقال : لي أبو طلحة : احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث معه بتمرات ، (( أمعه شيء ؟ )) قال : نعم ، تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ، ثم أخذها من فيه فجعلها في في الصبي ، ثم حنكه وسماه عبد الله(141) . ( متفق عليه ) .
وفي رواية للبخاري(142) : قال ابن عيينه : فقال رجل من الأنصار ، فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولد .
وفي رواية لمسلم(143) : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، فجاء ، فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت : يا أباطلحة ، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعهم ؟ قال : لا ، فقالت : فاحتسب ابنك . قال: فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني ؟ ! فانطلق حتى أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره بما كان ، فقال رسول الله : (( بارك الله في ليلتكما )) قال : فحملت ، قال : وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر وهي معه ، وكان رسول الله ا صلي الله عليه وسلم إذا أتي المدينة من سفر لا يطرقها طروقا ، فدنوا من المدينة ، فضربها المخاض ، فاحتبس عليها أبو طلحة ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : يقول أبو طلحة : إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ، وأدخل معه إذا دخل ، وقد احتبست بما ترى . تقول أم سليم ؟ يا أبا طلحة ، ما أجد الذي كنت أجد ، انطلق ، فانطلقا ، وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما ، فقالت لي أمي : يا أنس ، لا يرضعه أحد حتى تغدو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح احتملته ، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تمام الحديث .
الشرح
حديث انس بن مالك عن أبي طلحة أنه كان له ابن يشتكي ، يعني مريضا ، وأبو طلحة كان زوج أم أنس بن مالك رضي الله عنهم . وكان هذا الصبي يشتكي ، فخرج أبو طلحة لبعض حاجاته ، فقبض الصبي . يعني مات ، فلما رجع سأل أمه عنه فقال : كيف ابني ؟ قالت : (( هو أسكن ما يكون )) وصدقت في قولها ، هو أسكن ما يكون ؛ لأنه مات ، ولا سكون أعظم من الموت . وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ فهم أنه اسكن ما يكون من المرض ، وأنه في عافية ، فقدمت له العشاء فتعشى على أن أبنه برئ وطيب . ثم أصاب منها ، يعني جامعها ، فلما انتهى قالت له : (( واروا الصبي )) أي : ادفنوا الصبي ؛ فإنه قد مات ، فلما أصبح أبو طلحة رضي الله عنه ووارى الصبي وعلم بذلك النبي صلي الله عليه وسلم ، وسأل : (( هل أعرستم الليلة )) فولدت غلاما سماه عبد الله ، وكان لهذا الولد تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم .
ففي هذا الحديث : دليل على قوة صبر أم سليم ـ رضي الله عنها ـ وأن ابنها الذي مات بلغ بها الحال إلى أن تقول لزوجها هذا القول وتوري هذه التورية ، وقدمت له العشاء ، ونال منها ، ثم قالت : ادفنوا الولد .
وفي هذا دليل على جواز التورية ، يعني أن يتكلم الإنسان بكلام تخالف نيته ما في ظاهرة هذا الكلام . فله ظاهر هو المتبادر إلى ذهن المخاطب ، وله معنى آخر مرجوح ، لكن هو المراد في نية المتكلم ، فيظهر خلاف ما يريد .
وهذا جائز ، ولكنه لا ينبغي إلا للحاجة ، إذا احتاج الإنسان إليه لمصلحة أو دفع مضرة فليور ، وأما مع عدم الحاجة فلا ينبغي أن يوري ؛ لأنه إذا ورى وظهر الأمر على خلاف ما يظنه المخاطب نسب هذا الموري إلى الكذب وأساء الظن به ، لكن إذا دعت الحاجة فلا بأس .
ومن التورية المفيدة التي يحتاج إليها الإنسان : لو أن شخصا ظالما يأخذ أموال الناس بغير حق ، وأودع إنسان عندك مالا قال : هذا مالي عندك وديعة ، أخشى أن يطلع عليه هذا الظالم فيأخذه ، فجاء الظالم إليك وسألك : هل عندك مال لفلان ؟ فقلت والله ماله هندي شئ .
المخاطب يظن أن هذا نفي ، وأن المعني : ما عندي له شيء . لكن أنت تنوي ب (ما ) الذي ، أي : الذي عندي له شيء ، فيكون هذا الكلام مثبتا لا منفيا . هذا من التورية المباحة ، بل قد تكون مطلوبة إذا دعت الحاجة إليها ، وإلا ففيما عدا ذلك فلا .
وفي هذا الحديث : أن النبي صلي الله عليه وسلم لما جاء أنس بن مالك بأخيه من أمه ابن أبي طلحة جاء به إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه تمرات ، فأخذه النبي صلي الله عليه وسلم ومضغ التمرات ، ثم جعلها في في الصبي ، يعني أدخلها فمه وحنكه ، أي : أدخل أصبعه وداره في حنكه ؛ وذلك تبركا بريق النبي عليه الصلاة والسلام ، ليكون أول ما يصل إلى بطن الصبي ريق الرسول عليه الصلاة والسلام . وكان الصحابة يفعلون هذا إذا ولد لهم أولاد ـ بنون أو بنات ـ جاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا بالتمرات معهم من أجل أن يحنكه .
وهذا التحنيك هل هو لبركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم ؟ أو من أجل أن يصل طعم التمرات إلى معدة الصبي قبل كل شئ ؟
إن قلنا بالأول صار التحنيك من خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلا يحنك أحد صبيا ؛ لأنه لا أحد يتبرك بريقه وعرقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن قلنا بالثاني : إنه من اجل التمرات ليكون هو أول ما يصل إلى معدة الصبي ؛ لأنه يكون لها بمنزلة الدباغ ، فإننا نقول : كل مولد يحنك .
وفي هذا الحديث : آية من آيات النبي صلي الله عليه وسلم حيث دعا لهذا الصبي فبارك الله فيه وفي عقبه ، وكان له كما ذكرنا تسعة من الولد ، كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام .
وفيه : أنه يستحب تسمية بعبد الله ، فإن التسمية بهذا وبعبد الرحمن أفضل ما يكون ، قال النبي صلي الله عليه وسلم (( إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ))(144) .
وأما ما يروى أن (( خير الأسماء ما حمد وعبد ))(145) فلا أصل له ، وليس حديثا عن رسول الله صلى الله عليه سلم ، الحديث الصحيح : أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ))(146) . وحارث وهمام أصدق الأسماء لأنها مطابقة للواقع ، فكل واحد من بني آدم فهو حارث يعمل ، وكل واحد من بني آدم فهو همام يهم وينوي ويقصد وله إرادة .
قال الله تعالى : )يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (الانشقاق:6) ، وكل إنسان يعمل ، فأصدق الأسماء حارث وهمام ؛ لأنه مطابق للواقع ، وأحبها إلى الله عبد الله ، وعبد الرحمن .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار لأبنائه وبناته أحسن الأسماء ؛ لينال بذلك الأجر ، وليكون محسنا إلى أبنائه وبناته .
أما أن تأتي بأسماء غريبة على المجتمع ، فإن هذا قد يوجب مضايقات نفسية للأبناء والبنات في المستقبل ، ويكون كل هم ينال الولد أو الابن أو البنت من هذا الاسم فعليك إثمه ووباله ؛ لأنك أنت المتسبب لمضايقته بهذا الاسم الغريب الذي يشار إليه ، ويقال ، انظر إلى هذا الاسم ، أنظر إلى هذا الاسم !! .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار أحسن الأسماء .
ويحرم أن يسمي الإنسان بأسماء من خصائص أسماء الكفار ، مثل جورج وما أشبه ذلك من الأسماء التي يتلقب بها الكفار ؛ لأن هذا من باب التشبه بهم وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم (( من تشبه بقوم فهو منهم ))(147).
ويجب علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نكره الكفار كرها عظيما ، وأن نعاديهم ، وأن نعلم أنهم أعداء لنا مهما تزينوا لنا وتقربوا لنا ، فهم أعداؤنا حقا ، وأعداء الله عز وجل ، وأعداء الملائكة ، وأعداء الأنبياء ، وأعداء الصالحين ، فهم أعداء ولو تلبسوا بالصداقة أو زعموا أنهم أصدقاء ، فإنهم والله الأعداء ، فيجب أن نعاديهم ، ولا فرق بين الكفار الذين لهم شأن وقيمة في العالم أو الكفار الذين ليس لهم شأن ، حتى الخدم والخادمات ، يجب أن نكره أن يكون في بلدنا خادم أو خادمة من غير المسلمين ، ولا سيما وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول (( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب )) ويقول : (( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما ))(148) ، ويقول في مرض موته ، في آخر حياته وهو يودع الأمة : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ))(149).
وبعض الناس الآن ـ نسأل الله العافية ـ يخير بين العامل مسلم وعامل كافر فيختار الكافر ! قلوب زائغة ضالة ، ليست إلى الحق مائلة ، يختارون الكفار !! يزين لهم الشيطان أعمالهم ، ويقولون كذبا وزورا وبهتانا : إن الكافر أخلص في عمله من المسلم ! أعوذ بالله ! .
يقولون : أن الكافر لا يصلى ، بل يستغل وقت الصلاة في العمل ، ولا يطلب الذهاب إلى العمرة أو الحج ، ولا يصوم ، وهو دائما في عمل .
ولا يهمهم هذا الشيء مع أن خالق الأرض والسموات يقول : ) وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ)(البقرة: من الآية221) ، فيجب عليكم أيها الإخوة أن تناصحوا إخوانكم الذين اغتروا وزين لهم الشيطان جلب الكفار إلى بلادنا خدما وعمالا وما أشبه ذلك ، يجب أن يعلموا أن في ذلك إعانة للكفار على المسلمين ؛ لأن هؤلاء الكفار يؤدون ضرائب لحكوماتهم لتقويتها على المسلمين .
والشواهد على هذا كثيرة ، فالواجب علينا أن نتجنب الكفار ، بقدر ما نستطيع ، فلا نتسمى بأسمائهم ، ولا نوادهم ، ولا نحترمهم ، ولا نبدأهم بالسلام ، ولا نفسح لهم الطريق ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : (( لاتبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ))(150) .
أين نحن من هذه التعليمات ! ؟ أين نحن من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ؟ لماذا لا نحذر إذا كثر فينا الخبث من الهلاك ؟ استيقظ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات ليلة محمرا وجهه فقال (( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب )) إنذار وتحذير ، ويل للعرب حملة لواء الإسلام من شر قد اقترب (( فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث ))(151).
الخبث العملي والخبث البشري ، فإذا كثر الخبث في أعمالنا فنحن عرضة للهلاك ، وإذا كثر البشر النجس في بلادنا فنحن عرضة للهلاك ، والواقع شاهد بهذا ، نسأل الله أن يحمي بلادنا من أعدائنا الظاهرين والباطنين ، وأن يكبت المنافقين والكفار ، ويجعل كيدهم في نحورهم ، إنه جواد كريم .
قول أم سليم ـ رضي الله عنها ـ (( أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم طلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال: لا ، فقالت فاحتسب ابنك )) يعني أن الأولاد عندنا عارية ، وهم ملك لله ـ عز وجل ـ متى شاء أخذهم ، فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى .
وهذا يدل على ذكائها ـ رضي الله عنها ـ وعلى أنها امرأة عاقلة صابرة محتسبة ، وإلا فإن الأم كالأب ينالها من الحزن على ولدها مثل ما ينال الأب ، وربما تكون أشد حزنا ؛ لضعفها وعدم صبرها .
وفي هذا الحديث بركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان له تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ، ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم .
وفيه ـ أيضا ـ كرامة لأبي طلحة رضي الله عنه ؛ لأن أبا طلحة كان قد خرج مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر وكانت معه أم سليم بعد ان حملت ، فلما رجع النبي صلي الله عليه وسلم من السفر أتاها المخاض ، أي : جاءها الطلق قبل أن يصلوا إلى المدينة ، وكان النبي صلي الله عليه وسلم : (( لا يحب أن يطرق أهله طروقا )) أي : لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم بالقدوم . فدعا أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ ربه وقال : اللهم إنك تعلم أنني أحب أن لا يخرج النبي صلي الله عليه وسلم مخرجا إلا وأنا معه ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه ، وقد أصابني ما ترى ـ يناجي ربه سبحانه وتعالى ـ تقول أم سليم : (( فما وجدت الذي كنت أجده من قبل )) يعني هان عليها الطلق ، ولا كأنها تطلق .
قالت أم سليم لزوجها أبي طلحة : انطلق ، فانطلق ، ودخل المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما وصلوا إلى المدينة وضعت . ففي هذا كرامة لأبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه ، ثم لما وضعت قالت أم سليم لابنها أنس بن مالك ـ وهو أخو هذا الحمل الذي ولد ، أخوه من أمه ـ قالت : احتمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم نمر ، فيأخذ النبي صلي الله عليه وسلم التمرة فيمضغها بفمه ثم يحنك بها الصبي ، لأن في ذلك فائدتين :
الفائدة الأولى : بركة ريق النبي صلي الله عليه وسلم وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتبركون بريق النبي صلي الله عليه وسلم وبعرقه ، حتى كان من عادتهم أنه إذا كان في الصباح وصلى الفجر أتوا بآنية فيها ماء فغمس النبي صلي الله عليه وسلم يديه في الماء ، وعرك يديه في الماء ، فيأتي الصبيان بهذا الماء ثم ينطلقون به إلى أهليهم يتبركون بأثر النبي صلي الله عليه وسلم .
وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إذا توضأ النبي عليه الصلاة والسلام كادوا يقتتلون على وضوئه ، أي : فضل الماء ، يتبركون به ، وكذلك من عرقه وشعره .
حتى كان عند أم سلمة ـ إحدى زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام وإحدى أمهات المؤمنين ـ عندها جلجل من فضة ، أي مثل ( ( الطابوق ) فيه شعرات النبي صلي الله عليه وسلم يستشفون بها ، أي يأتون بشعرتين أو ثلاثة فيضعونه في الماء ثم يحركونها من أجل أن يتبركوا بهذا الماء(152) ، لكن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام .
الفائدة الثانية من التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحنكه الصبيان : أن التمر فيه خير وبركة ، وفيه فائدة للمعدة ، فإذا كان أول ما يصل إلى معدته من التمر كان ذلك خيرا للمعدة .
فحنكه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ودعا له بالبركة .
والشاهد من هذا الحديث : أن أم سليم قالت لأبي طلحة : احتسب ابنك ، يعنى : أصبر على ما أصابك من فقده ، واحتسب الأجر على الله . والله الموفق .
45 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))(153) ( متفق عليه )
(( والصرعة )) بضم الصاد وفتح الراء ، وأصله عند العرب : من يصرع الناس كثيرا .
46 ـ وعن سليمان بن صرد ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت جالسا مع النبي صلي الله عليه وسلم ، ورجلان يستبان ، وأحدهما قد أحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ذهب منه ما يجد )) فقالوا له : أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ))(154) ( متفق عليه ) .
الشرح
هذان الحديثان اللذان ذكرهما المؤلف في الغضب ، والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم ، فيستشيط غضبا ، ويحتمي جسده ، وتنتفح أوداجه ، ويحمر وجهه ، ويتكلم بكلام لا يعقله أحيانا ، ويتصرف تصرفا لا يعقله أيضا .
ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني قال : (( لا تغضب )) (2 ) .
وبين النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث أبي هريرة هذا الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الشديد ليس بالصرعة فقال : (( ليس الشديد بالصرعة )) أي : ليس القوي في الصرعة الذي يكثر صرع الناس فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة ، هذا يقال عنه عند الناس إنه شديد وقوي ، لكن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : ليس هذا الشديد حقيقة ، (( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) أي : القوي حقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وغضب ملكها وتحكم فيها ، لأن هذه هي القوة الحقيقة ، قوة داخلية معنوية يتغلب بها الإنسان على الشيطان ، لأن الشيطان هو الذي يلقي الجمرة في قلبك من أجل أن تغضب .
ففي هذا الحديث الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب ، وأن لا يسترسل فيه ، لأنه يندم بعده ، كثيرا ما يغضب الإنسان فيطلق امرأته ، وربما تكون هذه الطلقة آخر تطليقة !
كثيرا ما يغضب الإنسان فيتلف ماله ، إما بالحرق أو بالتكسير . كثيرا ما يغضب على ابنه حتى يضربه ، وربما مات بضربه . وكذلك يغضب على زوجته مثلا فيضربها ضربا مبرحا ، وما أشبه ذلك من الأشياء الكثيرة التي تحدث للإنسان عند الغضب ؛ ولهذا نهي النبي صلي الله عليه وسلم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان(155) لأن الغضب يمنع القاضي من تصور المسألة ، ثم من تطبيق الحكم الشرعي عليها ، فيهلك ويحكم بين الناس بغير الحق .
وكذلك ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ حديث سليمان ـ رضي الله عنه ـ في رجلين أسبا عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما حتى انتفخت أوداجه واحمر وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) أعوذ بالله أي : أعتصم به .
من الشيطان الرجيم : لأن ما أصابه من الشيطان ، وعلى هذا فيقول : المشروع للإنسان إذا غضب أن يحبس نفسه وأن يصبر ، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأن يتوضأ ، فإن الوضوء يطفئ الغضب ، وإن كان قائما فليقعد ، وغن كان قاعدا فليضطجع ، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه ، حتى لا ينفذ غضبه فيندم بعد ذلك . والله الموفق .
47 ـ وعن معاذ بن انس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كظم غيظا ، وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ))(156) رواه أبو داود ، والترميذي وقال : حديث حسن .
48 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : (( لا تغضب )) فردد مرارا ، قال (( لا تغضب ))157) ( رواه البخاري ) .
49 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ))(158)( رواه الترميذي وقال : حديث حسن صحيح ) .
الشرح
هذه الأحاديث في باب الصبر تدل على فضيلة الصبر .
أما الحديث الأول : حديث معاذ بن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة ))
الغيظ : هو الغضب الشديد ، والإنسان الغاضب هو الذي يتصور نفسه أنه قادر على أن ينفذ ؛ لأن من لا يستطيع لا يغضب ، ولكنه يحزن ، ولهذا يوصف الله بالغضب ولا يوصف بالحزن ؛ لأن الحزن نقص ، والغضب في محله كمال ؛ فإذا اغتاظ الإنسان من شخص وهو قادر على أن يفتك به ، ولكنه ترك ذلك ابتغاء وجه الله ، وصبر على ما حصل له من أسباب الغيظ ؛ فله هذا الثواب العظيم أنه يدعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة ويخير من أي الحور شاء .
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال : يا رسول الله ، أوصني . قال : (( لا تغضب )) فردد مررا فقال : (( لا تغضب )) فقد سبق الكلام عليه .
والحديث الثالث فهو أيضا دليل على أن الإنسان إذا صبر واحتسب الأجر عند الله كفر الله عنه سيئاته ، وإذا أصيب الإنسان ببلاء في نفسه أو ولده أو ماله ، ثم صبر على ذلك ، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يزال يبتليه بهذا حتى لا يكون عليه خطيئة . ففيه دليل على أن المصائب في النفس والولد والمال تكون كفارة للإنسان ، حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ، ولكن هذا إذا صبر .
أما إذا تسخط فإن من تسخط فله السخط . والله الموفق .
50 ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدينهم عمر رضي الله عنه ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ـ رضي الله عنه ـ ومشاورته ، كهولا كانوا أو شبابا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه ، فاستأذن ، فأذن له عمر . فلما دخل قال : هيه يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى هم أن يوقع به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199) ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها ، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى ))(159)( رواه البخاري ) .